جلستا جارتين على طاولة الغداء، الدفء المتدفّق من العيون لحظة اللقاء الأولى كان آذانا لعهد الودّ الوليد بينهما، لطالما اعتقدت "مفاز" أنّ القريبين من الروح هم من يملكون القدرة على النفاذ إليها من بوّابة العين؛ العين مفتاح الروح و عنوان حكاياتها، بادرت "صفيّة" بافتتاح الحديث معبّرة عن إعجابها بالمحاضرة و ما أثارته من قضايا مهمّة تتطلّب البحث و العمل، لم يمضِ كثير من الوقت حتّى انطلقت سفينة الكلام تُبحِرُ في أغوار الأرواح،رفعت مفاز انتباهها عن طعامها، و سلّمت كلّ حواسها لحديث صفيّة المنساب رقراقا من العين، بعينين صغيرتين تتسعان وفق إيقاع الحَكيِ، تحضن مفاز روحَ صفيّة المرفرفة على أجنحة الكلام، تحضنها كما تحضن الأمّ ابنها محاولة انتزاع كل ما علق به من هموم، ترهِف السمع لخربشات الزمن و هو يرسم أحداثه أخاديدَ على وجه صفيّة حيث ينعكس الشجن اللامع في عينيها و مشاعر أخرى أعمق من أن تُدركَ من اللمحة الأولى ، إنّها مشاعر تصنع منها إنسانا مليئا بالمعاني تُشرق من أعماقه الحكمة..
كانت وطأة الأيام ثقيلة قبيل أن ينبلج صُبحُ الثورة! هل لك أن تتخيلِي تمزّق شعوري بين فرح برفيق درب يعود لحضن عائلته بعد فراق مضنٍ، و ألم أمّ تبصر توجّسا يحتلّ عيني ابنها كلّما لمح أباه في ركن من أركان البيت! كان ذلك يمزّق قلبي أشلاءً ثمّ يرمي بها في جبّ مظلم سحيق لا أبصر منه نورا! ما أوحشه من شعور مفاز! رفض رائد عودة أبيه الذي قضى ستة عشر سنة وراء القضبان ظلما و بهتانًا،حمّله تمام المسؤوليّة في عذاب اكتوى به في غيابه، رفض مناداته ب "بابا"، بل هو يرفض ذلك إلى اليوم! هو يرفض ذلك في صمتٍ قاتلٍ! حاولت مناقشة الأمر معه لكنّ حاجز صلدا يحول بينه و يين تجاوز سنوات الغياب و الفراق، هو إلى الآن يغرق في صحراء الفقد و جراحاتها، هو يرفض الصفح عن والدٍ حُرِم عطفه و تِحنانه في أشدّ الأوقات احتياجًا، هو يشعر بالخذلان و لا يرى والده ضحيّة للظلم و الطغيان، رائد ينظر للقصّةِ من زاوية دون سواها، ينظر لمحبّة لم يرتو منها، ينظر لندائه الذي ظلّ معلّقا على الجدارن دون إجابة، ينظر لانتظاره كلّ مساء خطوًا يعود للبيت يزرعه طمأنينة، لكنّه لا يأتي و يتركه لقمة سائغة للخوف، ينظر تربيتة تملأه ثقة ليواجه أترابه الأشقياء بجسارة، لكن تبقى كتفه باردة فارغة منها، لطالما ظننت أنّ قلبي الذي وهبته له بكليّته سيتّسع له، و أنّ حناني الذي بذلت سيقوّم روحه المنكسرة، لطالما جاهدت نفسي في دفن الحزن بداخلي و علّقت الفرح عنوانًا على نظراتي حتّى يطمئنّ، لكنّ رائد فتى نبيه شفيف الحسّ مذ طفولته يتتبّع التفاصيل في صمت دون ثرثرة، لا تتردّد صفيّة في نثر روحها شذرات على ضفاف روح "مفاز" الممتدّة نهرًا من سكينة لمحدّثها فنظراتها تفيض إصغاء و اهتماما و احتواء، تردف قائلة: هل تعلمين "مفاز"؟ لم يعد للألم صدًى بداخلي إثر هذه المنحة الإلهيّة، حتّى رائد تركته لنفسه يتصالح معها بجراحاتها و أوجاعها، تركته لوعي اجتهدت في غرسه كي يفهم مشاعره فهمًا صحيحًا فلا يكبتها ولا يتركها جامحة تودي به إلى التكسّر، تركته يتنفس حريّة ابتاعها أبوه بقيده الدامي و غيابه المُوجع.
إنّه زمن الحريّة و الفهم و العمل، الثورة طهّرت كلّ الجروح النازفة فيّ، ما يهمّني اليوم هو أن أملأ صدري حريّة و أنطلق أبذل كلّ طاقتي أشيّد غدا حلمت به طويلا لأجيال قادمة، أقدّه بالعمل و الأمل، ما دام القيد قد انكسر فلن تضيرني الجراحات لأنّ بداخلي روحا تبغي التحليق قُبُلَ الآفاق الواسعة نائية عن غيابات الضغينة و الكره، فأنا لست مستعدّة أن يلتهم ظلامها أيّام عمري!
تعتلي صفحة وجهها موجة من الحنين تنبسط بها ملامحها إثر علامات الافعال و التأثّر التي اعترتها، و تتوه مفاز بين ثنايا الحديث منصرفة عن كلّ ما يحيط بها، إلّا وجه صفيّة الذي يُورِدُ القصص تترى دون كلمات، يُسافِرُ بها إلى عوالم من الشعور تسبح في أفيائها، هي التي ظنّت أنّها صغيرةٌ تجربتها، لا تجد نفسها غريبةً أبدا عمّا تحكيها صديقتها التي أنضجتها الحياة. مفازُ التي قطّع الفراق نياط قلبها، حتّى ظنّت أنّه لا بُدَّ مُهلِكُها و أنّ الحياة قد حطّت أوزارها عند هذه المحطّة، لكنّها أبصرت الطريق ممتدّا بعد أن جفّ دمعها وذهبت غشاوته، عندئذ استقبلت مفاز قلبها الحزين، آوته إليها و لم تُنكِر عليه مشاعر به لم تخبُ، و هي تواصل التحديق المُنتبِهَ في أعماق محدّثتها، تراءت نصب ناظريها رسالتها لصديقها المجهول أين سجّلت انتصارها الصغير بعد أن طال سعيها في صمت: "لم أعتًب نفسي على حزنها و المرارة التي تجرّعتها طويلا، بل تفهّمت حاجتها للانزواء و التراجع إلى أراضيها لا ترضى فيها مُنازعا! نعم، كنت أدرّبها على التحرّر من كلّ تعلّق، سوى التعلّق بالجمال و المحبّة لذاتهما، أيقنتُ أنّ هذا التعلّق وحدُهُ من يمنحها جناحين تحلّق بهما عن مهيض الألم، أنا اليوم أوسع ممّا ظننت، أنا اليوم ممتلئة بالحياة أكثر من أيّ يوم مضى! أنا اليوم ممتنّة لكلّ لحظات حياتي، أنا ممتنّة للحظات الوجع قبل لحظات الفرح، لأنّ الأولى كان فضلها عليّ أعظم، هي من فهّمتني كيف يقوى عود السالك الدرب و هو يصعد الجبل تاركا استسلامه، و يأسه، في السفح، لحظات الوجع مخاض يولد منه نور المعنى، لا ولادة من غير أوجاع، و لا معان تشرق في النفس دون آلام، أنا اليوم أرى الحلم يكبر لأنّي تحررّت من خوفي و تعلّمت معنى أن أكدح و أن أصبر على أذى الطريق و أتجاوزه.."
تختلف تفاصيل الأحداث في القصص لكن ثمّة ملامح و معان تجعلها متشابهة، كيف لا و قد وُلدت من رَحِمٍ واحدٍ: إنّه رَحِم الحياة!.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.