كنت أتجول في ميدان التوفيقية بوسط القاهرة متجها نحو محل بوظة مشهور، والواقع على امتداد شارع طلعت حرب باشا (ش سليمان باشا سابقا) بالقرب من سينما ميامي بوسط البلد؛ وسط البلد كما يحلو أن يسميها أهل القاهرة هو مركز المدينة أو النواة الإساسية لنشأة أي مدينة.
استرعى انتباهي شاب يافع متفجر حيوية، كان يقود سيارته ومذياع جهاز الكاست لسيارته في أعلى مؤشر له ، حيث صوت غناء يترنح بكلمات متمايلة وتردد كلمات "بنات وسط البلد… بنات وسط البلد" بإيقاعها السريع و المتراقص .
كلمة "وسط البلد" عَلَقَتْ في ذهني، وارتحلتُ عن القاهرة بعد قضاء إجازة عائلية قصيرة إلَّا أن تأمُّلاتي في مفردات كلمة "وسط البلد" كانت تُلاحقُ فكري لسبب أجهله.
"وسط البلد" لأي مدينة ترمز لتاريخ نُشُوء وانطلاق أي مدينة في العالم، هكذا قد أفهمه أنا والكثير من القراء.
ولذالك يقعُ على مسامعك عندما تكون في أي حاضرة عربية "كجدة" بالحجاز على سبيل المثال، نداء سواقين الميكروباصات أو الباصات ٢٥ راكب، هتافاتهم المتكررة "خط وسط البلد" وهكذا في عواصم عربية أخرى كالقول "وسط بيروت" في لبنان أو "وسط الشام" في دمشق أو "المدينة القديمة" في مراكش … ألخ.
ونفس الفهم متكررٌ في العالم بالتعبير عنه بلوحاتٍ إرشادية مكتوب عليها The Center.
في معظم البلدان العربية التي زرتها وجدت شبه تفريغ أو شبه اهمال ينتهي إلى إعدام لمناطق وسط البلد من تاريخها ومن ثقافة الفن المعماري بها وأصالتها وتراثها.
فاذا جاء السائح الأجنبي، أو الأجيال اللاحقة كل مايرونه هو أما سحل لمنطقة وسط البلد لكون المباني القديمة سُحقت بهدمها؛ وتم بناء الجديد على أنقاضها دون مراعاة لتراث وطراز البناء و ثقافة المكان أو أن كل شي فرغ من محتواه من التراث والهوية واسُتبْدِلَ بمراكز تجارية فخمة، ومطاعم وجبات سريعة، ونوفتيات وبوتيكات تصرخ بترويج لبضاعات وأكلات عالمية!!!.
احتبست أنفاسي حنقًا ومازالت نفس التساؤلات ترد على ذهني تباعًا عن كلمة "وسط البلد " ودلالاتها ورمزيتها حيثما جُلتُ في الأرض .
شد انتباهي عندما ساق الله الكريم المنان خلال تجوالي في أرض الله الواسعة إلى مدينة "مونتريال" الكندية، حفظ "الكيوبيكيون" Quebecers على وسط مدينتيهما، مدينة "مونتريال" و مدينة "كيوبك" ، طبعا هناك دول أخرى أيضا تعتمد نفس السلوك في التعامل مع وسط البلد القديم ولكن نكتفي بمدينة "مونتريال" كمثال.
عندما تتجول في وسط البلد القديم يكون من أجمل التجول بالأقدام هو شارع "Saint Paul". يجمع الشارع، وهو قصير المسافة نسبيًا، يجمع ألوان الطيف من جمال الشارع وأناقة الكثير من المحلات، وحسن المعروض و تميز البضاعات، وتفوق الفنانين التشكيليين في خلق اللوحات، و تكاثر عدد الجاليريا بكل صنوف الفن.
أسرد منها لا للحصر:
Artsmibaro
Galarie Got Montreal
Galarie Le Royer
galariebeauchamp
Www.leluxart.com
www.metiersdart.ca
De Art Inuit
galariemeraude
بعضها متخصص في اللوحات السريالية، و البعض الأخر في فن الفراغات، والأخر في المجسمات، وأخرون في الفن التشكيلي… الخ.
مرورًا بمطاعم راقية ك"The Keg"و"Papilon"و …محلات هدايا سوفتير، ومعارض ملابس راقية متناثرة، ومحلات العسل الصافي "Les Delices de l'Elable"على امتداد الشارع وعند تقاطعات "Saint Lauren" و "Saint" "Gabriel من أكثر مايلفت نظرك أن كل صاحب محل وليس فقط الفنانين أو الجالريا يجعل من محلة لوحة فنية في العرض و انتقاء البضاعة، فمثلا محل "l' "empreinte و "Amemoc" .
وتمشي حتى تصل إلى تقاطع "Jacques Cartier" فترى اصطفاف الحناطير على يمينك مقابل الميناء القديم، وهي مجموعة حصن مزودة بعربات لعمل جولات للسياح بالتجول في شوارع وأروقة البلد، والأحياء القديمة القريبة من مونتريال النسخة القديمة…
ويمتد بك الشارع متعتا،على قصر طولة نسبيا، لترى تنوع غريب زمن المطاعم فالمطبخ العربي مثلا Cafe Arabe" ثم الإيطالي "Ijuine De Spaghetti" والفرنسي "ChezEric"، ولمن لم يستطيع أن يحجز مكانًا له في هذا الشارع لفتح نشاطة التجاري، الذي بحق يعتبر قبلة لسواح ، ذهب إلى الشارع الموازي Notre Dam.
نستأنف النقل لك عن الصورة حيث توقفنا، و نقول عندما تمشي قدمك أكثر فتصل إلى "Marche Bonsecours"، ينتابك شعور بأن من عمل هنا من المهاجرين الأوائل وتركوا بصمة، فإن بصمتهم لن تزول إلَّا بزوال الأرض!!!.
في هذ المضمار، أوربا بالذات، النفس الفرنسي، تميزت على النموذج الأميركي للحفاظ على الإرث، في المدن القديمةً بالقارة الأميركية وهناك استثناءات.
مثال "مونتريال" ضرب لإعطاء الصورة قوة وزخم ذلك أن أوربا، القارة العجوز، بها تاريخ يمتد قرون كثيرة، ولكن مع قلة امتداد التاريخ في "مونتريال"، فإنهم أجادوا الترويج لما ضمته أيديهم من عبق تاريخهم ولو كان غير سحيق زمانا.
فحق لنا التسأل عمن اُليد من مباني أو هُرب من مخطوطات نادرة أو طُمس من عمران أصيل قد أنعم الله بها على بلاد الشرق الاوسط.
في أنحاء أخرى من العالم تتكرر الصورتين، وسط البلد القديم بين البقاء والخلود والعرفان والحفاوة عبر الأجيال لتاريخ وسط البلد، و الإنسان الأصيل الذي أسسه، أو النكران والتوسع الغير مدروس و التنصل و الإهدار لكل أصالة وجمال وتاريخ وتراث. وهذا الطرح يمكنك أن تقرأ في ثقافة أي شعب وكيفية التعاطي مع مناطق "وسط البلد" وليس ابن البلد فقط.
استرعى انتباهي أن اليونسكو تدخلت في معالجة الموضوع للحفاط على الموروث البشري في العمارة و الفن و الجمال للمكان لاسيما "وسط البلد" لبعض المدن التاريخية، لفشل بعض المسؤولين المحليين في بعض الدول من الحفاظ على الإرث البشري الموسوم بوسط بعض المدن. لسان حال الغناء الذي يطرب هو "أولاد البلد …. أدركوا تراث وسط البلد".
أولاد البلد المقصود بهم المهندسين، و الفنانين، و المؤرخين، و التجار، و المسؤولين، فهم من يقع على عاتقهم إيجاد الحلول للحفاظ على هوية المدن القديمة، و الترويج السياحي لها لتكون قبلة للسواح، و بذلك تُخلق فرص وظيفية و تُدر أموال بالعملة الصعبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.