انتهج المعتقلون الفلسطينيون المتزوجون والمحكومون بالسجن مدى الحياة طريقة لكسر إرادة سجانهم وزراعة الأمل بالحرية في أنفسهم وعائلاتهم الذين انتظروهم سنوات طويلة، حيث ابتكروا وسيلة جديدة للإنجاب عن بُعد بتهريب النطف من السجون وزراعتها في أرحام زوجاتهم في الخارج.
المعقتل الفلسطيني عمار الزبن، المعتقل لدى إسرائيل منذ 19 عاماً، رُزق قبل اعتقاله ببشائر فيما لم يحالفه الحظ لرؤية ابنته بيسان، حيث كانت لا تزال في رحم أمها، وخلال 15 عاماً من اعتقاله فقد عمار شقيقه بشار الذي قتلته إسرائيل برصاص جنودها وفقد أمه بعد إضرابها عن الطعام تضامناً معه، وتوفي والده مصدوماً لفقدان زوجته وولديه.
عمار كما تقول زوجته بدأ يفكر بعد تلك المصائب بصناعة أمل جديد للحياة، فمنذ عام 2006 وهو يحاول إقناع زوجته بالإنجاب عن بُعد بتهريب النطف من داخل السجن وزراعتها ليعوض عائلته عما فقدته طيلة السنوات الماضية، لكن الفكرة لم ترى النور إلا بعد 6 سنوات من النقاش والجدل.
من أين لك هذا؟
دلال الزبن، زوجة عمار، تقول إن الشيء الأكثر حساسية في هذه القضية حين كنت دائماً أسأل نفسي ماذا سيقول المجتمع من حولي حين أحمل وزوجي بعيداً عني منذ أكثر من 15 عاماً، هل سيتقبل الناس ذلك؟ وكيف سيتعاملون معي؟
وتضيف دلال لـ"عربي بوست" بعد أن استقر بنا الرأي على تهريب النطف وزراعتها توجّهت الى طبيب متخصص بهذا العمل وطمأنني وقتها إلى أن الزراعة ممكنة ولا توجد فيها أي مخالفة قانونية أو شرعية، ووقتها تولى زوجي عمار تهريب النطف من داخل السجن وإيصالها الى المستشفى لأقوم بإجراء أول عملية زراعة.
بعد 3 محاولات متتالية نجحت عملية الزراعة وحملت دلال بولدها الأول والبكر من جنس الذكور، وبدأت بعدها تتلاشى مخاوف النظرة الاجتماعية؛ حيث تقبل الناس من حولها الفكرة وقاموا بدعمها وتشجيعها متعاطفين مع قضية الأسرى وأهاليهم.
وتقول دلال: "رغم أنهم مسجونين مدى الحياة إلا أنهم ما زالوا على قيد الحياة ويمكنهم صناعة حياة جديدة خارج قضبان السجون، والأسير المحكوم مدى الحياة ومعتقل منذ أكثر من 10 سنوات لن يخرج على زوجته وهي في نفس عمرها فقد يجدها وصلت سن اليأس دون أن يفرح بالأولاد منها".
وتضيف: "نحن ضحّينا بأعمارنا وحياتنا من أجل أزواجنا لأنهم ضحّوا بحياتهم من أجل وطنهم ويحق لنا أن نفرح رغم كل المنغصات، وخلال حملي بمهند كنت سعيدة جداً بذلك، وكل من حولي كانوا يشعرون بالسعادة والمجتمع الذي كنت أخاف من نظرته كان مشجعاً وحاضناً لتجربتي واحتفوا بي وبالمولود القادم".
فرحة وأمل
ومع قرب خروج المولود الجديد الى الحياة بدت معالم الفرحة ترتسم على وجه دلال وابنتيها، فيما كان من حولها ينتظرون بفارغ الشوق رؤية أول طفل مهرّب من السجون الإسرائيلية، فيما كان عمار وقتها يجلس في غرفته ينتظر سماع خبر وصول ابنه الأول الى حياة الحرية بسلام.
وتعبر دلال عن تلك اللحظات بقولها: "بعد أن رأى مهند النور كنا نشعر بأننا في حلم، شعرنا بالصدمة، المستحيل الذي كنا قد بدأنا باليأس منه أصبح واقعاً ممكناً، مهند كان فرحة كبير بالنسبة لنا وجعل حياة الأسرة مليئة بالأمل".
بشائر وبيسان اللتان انتظرا الأخ المدلل بعدما فقدا الأمل غمرت أعينهن الدموع من شدة الفرح، فيما اعتصرت قلوب الحاضرين لغياب عمار، ولسان حال الاختين يقول: "أخيرًا جاء أخي مهند.. سيكبر ويعتني بنا ويكون سندًا لنا في حياتنا.. أصبح لي أخ كباقي صديقاتي.. ستعود الفرحة معه للبيت.. وندعو الله أن يفرج عن والدي لنعيش كلنا مع بعضنا بعضاً عائلة واحدة تحت سقف واحد".
كل تلك الفرحة والسعادة كانت دافعاً لدلال لتكرار التجربة مرة أخرى، فبعد عامين من ولادة مهند حملت دلال وبذات الطريقة بصلاح الدين الذي أعطى للحياة مزيداً من الأمل والسعادة، تقول دلال: "بعد كل تلك السعادة والفرحة كررت التجربة مرة أخرى ورُزقت بولد آخر سمّيته صلاح الدين، مهند وصلاح الدين ملآ حياتنا أملاً لي ولبناتي ولزوجي المعتقل في السجن".
محرومون من اللقاء
لم يمر يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول من عام 2012 مرور الكرام على الأسير عمار الزبن، حيث أصبح ذكرى سجلها في ذاكرته، ليكون بمثابة مقطع جميل من حياته يتذكر كل لحظة به، فهي اللحظة الأولى التي يحتضن بها طفله الصغير مهند الذي ترعرع في أحشاء والدته وتفتح على الدنيا وهو بعيد عن والده.
تقول دلال إن زيارة مهند لوالده بعد أسبوعين فقط من ولادته كانت بأعجوبة، وكان المرة الأولى والأخيرة التي يرى عمار فيها مهنداً، ولم ير بعدها صلاح الدين، وتصف دلال تلك الزيارة قائلة: "اختلطت مشاعر الفرحة والحزن، الفرحة بقدوم مهند والحزن ببعد والده".
وتضيف: "رفض الاحتلال إدخال الطفل مهند إلى والده ليحتضنه، ولكن بعد جهد كبير سُمح له بـ5 دقائق فقط، واحتضن عمار مهنداً وقبله وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي رأى عمار ابنه، حيث منعت إسرائيل زيارة أبناء الأسرى الذين جاءوا عبر النطف المهربة لوالديهم".
وفي أعقاب تلك الزيارة تنبهت إسرائيل لقضية النطف المهربة التي أصبحت بمثابة حرب ناعمة بين الأسرى الفلسطينيين وإدارات السجون الإسرائيلية، حيث أصدرت قرار بمنع زيارة الأطفال المهربين لوالديهم الأسرى ومنع استصدار أرقم هوية لهم.
وانتهجت إدارة السجون الإسرائيلية في أعقاب ذلك سياسة الحرمان والعقاب للأسرى وذويهم، تبدأ بحرمانهم من رؤية أبنائهم وإخضاعهم للعزل الانفرادي وفرض غرامات مالية أو منع زوجاتهم من زيارتهم، وفقاً لما يؤكده الباحث المختص في شؤون الأسرى عبدالناصر فروانة.
وتنظر السلطات الإسرائيلية – بحسب فروانة – إلى أطفال النطف المهربة على أنهم "غير شرعيين"، ولا تعترف إلا بمن أنجبوا قبل وقوع آبائهم في الأسر، الأمر الذي دفع عدداً من الأسرى إلى توكيل مراكز حقوقية إسرائيلية من أجل انتزاع حكم قضائي يجيز لهم الالتقاء بأطفالهم وزوجاتهم.