الفقد، الزَّوَال، الضياع… كثير ما جادت به لغةُ الضاد من مرادفات للفقدان، ولكن المعنى واحد: أن يتوارى و يختفي شخص ما، شيء ما، شعور ما، أو حتى جزء من الذات كان في يوم من الأيام اعتيادي الوجود، كالشمس التي تعلن بداية كل يوم جديد.
و قد يُعتبر ما بعد الفقدان من أصعب الحالات النفسية التي يمكن أن يمر بها الإنسان و التي شغلت بال و فِكر العديد من الأخصائيين و المحللين النفسيين، أبرزهم الأمريكية السويدية "إليزابيث كيوبلر روس" و التي تحدثت عن مراحل الحزن الخمس في كتابها "عن الموت والوفاة"، ففي الوقت الذي يمكن أن نظن فيه أن الفقدان لا ينتج عنه سوى اكتئاب، تقول روس: أن الفاقد يمر من خمس مراحل وهي؛ الإنكار ، الغضب، المساومة، الاكتئاب ثم القبول أو التقبل.
تشعر بالاستياء منذ بداية المقال؟ أنا كذلك، فالحديث عن الفقدان و ما بعد الفقدان ليس هو الهدف الرئيسي وراء كتابة هذه السطور، و لو كان الأمر كذلك لأسهبت في تفاصيل المراحل الخمس لما بعد الفقدان… و لكن إسهابي ذاك سيكون على مستوى مراحل خمس أخرى: المراحل الخمسة لما قبل الفقدان !
الإيمان: أول مرحلة للتحضير لكل أحداث الحياة و ليس فقط الفقدان، أن تؤمن و توقن أن هناك أشياء لا نحسن بل لا نستطيع التدخل في
حدوثها، أننا تارة مُخَيَّرون و تارات أخرى عديدة مُسَيَّرون، أن تؤمن أن وجود عنصر واحد قائم على فقدان عنصر واحد آخر على الأقل؛ نعم شيء مثل نظرية الألعاب ! الإنسان المؤمن يعلم يقينا بأن الله لا يحرمنا من شيء إلَّا و يعوضنا بشيء آخر مثله أو أفضل منه، فالعلاقة بين مستوى الإيمان و أثر الفقد علاقة ارتباط سلبي، كلما كان الإيمان قوياً، كلما كان أثرُ الفقد أقل وقعًا..
الحب: أو ما يجعلنا نكسر نمطية و ملل الحياة، الحب الصادق، لا يغير فيه الفقدان شيء، لا يأبه للفقدان لأنه حب مبني على ما سبق، على الإيمان، فالحب الصادق هو الذي يستمر لما بعد الفقدان و الفقدان لا يفسد للحب قضية! أن تحب في حضرة أو غياب المحبوب، فذلك يعني أن تحب الروح قبل الجسد، تفتقد الجسد فقط… لأن الأرواح المشدودة وصالها بالحب، لا يقطع وصالها فقدان.
التحرر من الرغبة في التملك، هي في الحقيقة من أصعب المراحل، لأن الإنسان بطبعه يميل لتملك ما يحب و كأنه لا يتأكد من ضمان ما يحب إلَّا عن طريق التملك، غريزة ليس من السهل التحكم فيها و لو علم الإنسان أنها هي من أشد مسببات الحالة النفسية السيئة لما بعد الفقدان، لروضَ نفسهُ على التخلص من تلك الرغبة، باعتبار أن ما نخاف أن نفقده أو يفقدنا كيان مستقل بذاته، بأقداره و بمصيره.
الاستمتاع: بوجود ما نخاف فقدانه، بكل بساطة العيش في الحاضر و استغلال لحظات وجودنا سويا، لسبب بسيط أيضا و هو تَجَنُّب التَّنَدُّم في المستقبل عن ما أضعناه من وقت بعيدين عن من نحبهم و نخاف فقدانهم، أن نخبرهم اليوم أننا نحبهم، و كم هم رائعين، جُملاءُ ، نادرين، استثنائيين و حقيقيين..
و أخيراً و ليس آخرا الرِّضا: و هي نتيجة منطقية لما سبقها من مراحل، مرحلة تكون قد وصلت فيها للعديد من القناعات و التصورات، بحيث أنك ترضى بكل ما اكتسبته من خلال جهد بذلته لتحقيق هدف أو حلم معين، و لكنك تكون أيضا على استعداد لتقبل ما تخفيه الحياة من أحداث غير مرغوب فيها و لا نستطيع شيئا لمنع حصولها كالفقدان، و بذلك نُقَلِّص عدد مراحل ما بعد الفقدان إلى مرحلة واحدةٍ أو مرحلتين..
و الفقدان و إن تعددت أشكاله و أسبابه، فهو في كثير من الأحيان شَرٌّ لا بد منه و خيْرٌ لا شكّ فيه، يُذِلّه و يكسِر جبروته الإيمان و الرضا و أشياء أخرى.. و الحياة لا تنتظر أحدا حتى يفرغ من مراحل ما بعد الفقدان لكي تُهْديه الوقت بدل الضائع…كن قوياً لأجلك، لأجل من يحبونك و يخافون فقدانك و لأجل من تخاف فقدانهم…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.