لا توجد حتى الآن مؤسسات عربية ناجحة في مجال صناعة أفلام الكرتون للأطفال، تحمل مضامين تعبر عن هويتنا العربية، وموروثاتنا الثقافية كما ينبغي.
أما محتوى الأفلام الكرتونية الأجنبية التي تنشر يوميًا عبر شاشاتنا مضامين متنوعة لا تخضع في معظمها للضوابط الصحيحة، ويغيب عنها التوجيه السليم في أغلب الأحيان، كل ذلك في ظل انتشار دكاكين جديدة من القنوات العربية التي يغلب على أولوياتها الربح والانتشار قبل أيّ شيءٍ آخر.
دعونا نسلّم مجبرين بأن دول العالم الأول باتت الموجّه الأول لمفاهيمنا وقيمنا عبر استئثارها بالتقنيات الحديثة وشركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وربما تعتبر اليابان إحدى أبرز الأمثلة على ذلك، عندما غزت قنوات الأطفال العربية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بأفلام كرتونية تحمل رسائل ومضامين توافق ما تراه – أي اليابان – مناسبًا لمجتمعها وثقافتها بالدرجة الأولى والثانية وحتى المائة!
ومن منا نحن أبناء هذا الجيل ينكر أثر مشاهدة هذه الأفلام على تفكيرنا كأطفال، وكيف أسهمت في تكوين ثقافتنا والتأثير على سلوكياتنا، وكانت مصدرًا من مصادر تعليمنا اللغوي الهامة بعد دبلجتها بالفصحى بشكل قد يكون غير مباشر، لكنه قطعًا واضح الأثر.
منذ بداية الألفية الجديدة سيطرت أفلام شركة ديزني على الساحة وبدأت بدبلجة أعمالها باللهجة العامية المصرية، ثم استبعدت اللهجة المصرية منذ عام 2012 لتعود الفصحى إلى بيوتنا مرة أخرى من خلال أفلامها، لكنّ حملة إلكترونية دعت مؤخرًّا لعودتها إلى اللهجة المصرية مجددًّا بعنوان "ديزني لازم ترجع مصري".
وهنا لا نلوم "ديزني" إن قررت أن تدبلج أفلامها باللهجة العامية المصرية بدلًا من العربية الفصحى، فهي تسعى لتحقيق هدفها الأول كمؤسسة ربحية، وهو جني المال من منتجاتها.
لكن ماذا عنا نحن؟ ما هدفنا الأول؟ عندما نطالب تلك الشركة بأن تلغي اللغة العربية الفصحى لنستبدلها بلهجة محلية مصرية غير محكية في أغلب الأقطار العربية؟
وما الفائدة التربوية التي قد تلحق بأطفالنا عندما نطمس إحدى الإيجابيات التي وجدناها أخيراً في هذا المنتج الغربي عبر سماعهم لغتهم العربية غير المنطوقة في أغلب منازلنا ولا حتى مدارسنا التي أصبحت تخاطبه بالعامية غالبًا.
ما الفائدة وما المقصد عندما ننسيه ما كنا نردده بعفوية فنقول: "ماذا دهاك" ونستبدلها بـ"إنت مالك"؟!
مدخل:
وما يبدو جليًا أن قضية دبلجة أفلام ديزني قد أخذت منحى جدليًا، تُستدعى فيه الحمية الوطنية، والحشد الشعبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما ينذر بتحويل الأنظار عن جوهر القضية الأساسية، الذي ينبغي أن يخضع للعقل والمنطق أكثر من أي شيء آخر، فالموضوع يتعلق بالهوية والمصير المشترك لأمة قسمتها الجغرافيا، وتكاد الشعارات والأشياء التافهة تقضي على ما تبقى من أواصر بين مكوناتها.
قبل الخوض في الأضرار المرتبة على دبلجة الأفلام إلى العامية المصرية، نرى ضرورة تحرير المسألة من بعض الشوائب، التي علقت بها وأخذت حجماً أكبر من قدرها، حتى أنها أصبحت شماعة يعلق عليها المتآمرون على الهوية، أو الساكتون على ضياعها، أو الراغبون في ذلك، مقولاتهم وأطروحاتهم في القضية.
– إن رفض دبلجة الأفلام إلى العامية المصرية لا يعني بحالٍ من الأحوال أيّ موقف سلبي تجاه مصر، بل لا وجاهة للربط بين الأمرين، والذين يلعبون على هذا الوتر يقفون على أرضية متهافتة، لا تخاطب العقل ولا تستند إليه، وإنما تتخذ من الديمغوجية مرجعاً، والشعبوية الصارخة وسيلة لتحقيق أهداف لا تخدم المستقبل في شيء، والأمر ذاته ينطبق على أي دولة عربية يراد للهجتها المحلية أن تكون مرجعًا وحيدًا لثقافة الجيل القادم.
– لا يعني انخراط شخصيات عامة، فنانين وإعلاميين، في الحملة الداعية إلى إرجاع أفلام ديزني إلى العامية المصرية، أنها تعبر عبر عن روح الثقافة المصرية الرفيعة، التي ظلت لسنوات طويلة، ولا تزال في بعض أوجهها، مصدرًا لثقافة الأمة.
– لم يقدم القائمون على الحملة مبررات يمكن قبولها، أو حتى تفهمها، وإذ نفترض أن الجمهور المستهدف مصري خالص، فهل من المستساغ المفاضلة بين العامية المحلية واللغة الفصحى؟ وهل الفكاهة تستحق أن ندفع مقابلها مستقبل جيل كامل؟!
– الفصحى لغة القرآن، والحديث، والشعر، كما أنها لغة الثقافة والوعي الرفيع، والأسوار حولها منيعة، بينما العامية، في أي بلد، مستباحة من السوقية وأصحاب الذوق الضعيف، والفئات غير المتعلمة، وذلك يعلق بها شوائب كثيرة لا يصلح ترحيلها إلى الجيل الخالف.
بعد تحرير الموقف من بعض الشوائب العالقة به، يمكن أن نعرض للأضرار المؤكد وقوعها، حال دبلجة أفلام ديزني إلى العامية المصرية، أو أي عامية عربية أخرى:
أولاً: تغذية النزعة القومية المحلية على حساب القومية الجامعة، وذلك يترتب عليه، في الأمد المنظور، وجود قوميات متصارعة على خارطة العالم العربي، فكل أصحاب عامية سيسعون إلى التمكين لها، بين مجتمعهم على الأقل، وما يترتب على ذلك من مواقف حادة تجاه الآخر، المخالف في اللغة، وهذه حرب عمياء لا منطق لها ولا وجاهة، لكنها قادرة على الحشد، بمستوى يفوق التصور، وقد رأينا كيف يمكن إدخال أمم كاملة في صراعات دموية، بشعارات واهية وتافهة.
ثانياً: قطع الصلة بين الجيل الجديد وتراثه القيمي، فالتراث الجامع محفوظ في وعاء اللغة الفصحى، وترسيخ العامية كبديل للفصحى يترتب عليه التخلي عن ذلك التراث، الذي لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون العامية حاضنة له، فخزائنها أكثر ضيقاً وأشد ضعفاً من حمل الثقل.
ثالثاً: تسطيح المعرفة، وشيوع الضحالة، فحين تكون العامية هي الوعاء الأساسي للفكر، فضلاً عن عجزها عن ذلك، سيتوقف الغوص في أعماق الأفكار والمضامين، وهنا تتولد الضحالة والسطحية، وتنتقل المعرفة من كونها عملية فك الارتباط بين الأشياء وترتيبها في أنساق، إلى عملية لا أسس لها، ولا جدوى.
أخيراً، أعتقد أن المثقفين وأصحاب الرأي أمام مسؤولية تاريخية، توجب عليهم رفع شعار "اللغة أولا"، كلٌّ على طريقته، وحسب ما يراه مناسباً، فالتنازل عن اللغة يعني التنازل عن الهوية، والهوية مركزها اللغة، ومتى ما جررت تلك اللغة تحت أقدام العاميات الزاحفة، فإن أوان فنائها قد اقترب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.