نحن الفتيات نسافر إلى أفريقيا “8”

ذهبت إلى المكتب لأرى «كولين» (في الحقيقة ذهبت للتمتع بمكيف الهواء قليلاً)، طرقت بيديها على الطاولة ضاحكةً وقالت: «مريم! لقد اتصل والدك بي للتو!». وغني عن القول أنَّ جميع الآباء يقلقون، ولكن والدي قصة مختلفة

عربي بوست
تم النشر: 2016/04/21 الساعة 11:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/04/21 الساعة 11:26 بتوقيت غرينتش

"كاسان" هي مدينة في بتسوانا، تقع على مقربة من "الأركان الأربعة" الشهيرة في أفريقيا، حيث تلتقي حدود أربع دول: بتسوانا، وناميبيا، وزامبيا، وزيمبابوي.

وصلنا إلى "كاسان" في وقتٍ متأخرٍ بعد الظهر، في الوقت المناسب للراحة والذهاب في رحلةٍ نهريةٍ. كان الجو في بتسوانا مليئاً ببهجةٍ خالصةٍ؛ جعلنا جميعاً نشعر بحالة معنوية عالية ونحن نستمتع بوجودنا بين الطبيعة الساحرة وسُكَّانها المحليين. وأصبحنا ننصب خيامنا بصورةٍ أسهل بغض النظر عن أحوال الطقس أو الرمال.

وقبل أن نشعر كُنَّا في نهر "تشوبي"، الذي يقع في الشمال الشرقي من حديقة "تشوبي" الوطنية. وعلى غرار حديقة "أتوشا" الوطنية، تحتل "تشوبي" بقعةً مهمةً في موسم الجفاف يمكن للزوار منه رؤية الحيوانات التي تتجه إليها لكونها مكاناً لتبريد أجسامهم وشرب الماء، وهي أيضاً البقعة الأكثر تركيزاً للحياة البرية.

وبعد لحظاتٍ من بداية رحلتنا قابلنا عائلة من القردة تحيط بالأشجار وتراقبنا بحذر من كل منفذ يمكنهم رؤيتنا من خلاله. كان نهر "تشوبي" واسعاً ومتعرجاً. وكانت السماء شديدة الزرقة، فيعكس النهر ألوانها، وتزيده أشعة الشمس الناعمة بهاءً.

كان المركب مكوَّناً من دورين، السفلي منهما مليء بكراسي على الجانبين، تفصلنا عن المجموعة الأخرى التي كانت بمثابة "منافسينا" الذين كانوا ينبهوننا إلى خفض أصواتنا كلما بدأت في الارتفاع. أمَّا الدور العلوي فقد كان مفتوحاً تماماً وبلا كراسي؛ مما يجعلك قادراً على رؤية أفقٍ أبعد.

كان جانب نهر "تشوبي" خليطاً من السهول الفيضية، وغابات، وأراضي مشجرة واسعة. كان المنظر يبدو وكأن النهر يفصل بين الغابات على اليسار، وعلى اليمين أراضٍ مشجرة مفتوحة مع عدد قليل من السهول الفيضية.

وكانت تلك هي المرة الأولى التي نرى فيها فرس النهر من قربٍ، ثلاثة أرباع جسمه في الماء والربع الآخر، بما في ذلك الأذنان والعينان، فوق الماء يراقب الوضع من حوله، مع أنَّ فرس النهر لا يجب أن يقلق بشأن أي شيء، كونه واحداً من أخطر الحيوانات وأكثرها فتكاً. وعلى مقربةٍ من النهر كانت هناك مجموعة من أفراس النهر، وكل واحد منهم لديه طائر أو اثنان أسفل منه أو بجانبه. والسبب في ذلك هو أنَّ الكثير من الذباب يُطوِّق فرس النهر؛ مما يجعل من السهل على الطيور أن تحصل على طعامها. إنَّه لأمرٌ طريفٌ أن يتعاون فرس النهر مع الطيور للاستفادة من بعضها البعض رغم الاختلاف الكبير بين حجميهما.

وبعد رحلةٍ ممتعةٍ قضيناها في مشاهدة أنواع حية مختلفة والتمتع بالرفقة، عُدنا إلى مخيَّمنا لنتناول عشاءً لذيذاً في ليلة صافية. وفي اليوم التالي كنا متجهين إلى زامبيا، وأخيراً كنا سنحصل على اتصال بالإنترنت وأربعة أيام كاملة في مخيم واحد؛ مما يعني أنَّنا سنتمكَّن من النوم لما بعد الرابعة والنصف صباحاً والراحة لبضعة أيام.

لكن الأمر كله بدأ بداية سيئة (رأيتها أنا مضحكة). إنَّ زامبيا معروفة بـ"شلالات فيكتوريا"، أكبر شلالات العالم، والتي تمتد من زامبيا إلى زيمبابوي. في موسم الجفاف يكون جانب النهر من جهة زامبيا جافاً للغاية، لكن إن ذهبت إلى منطقة تبعد عن مخيَّمنا 20 دقيقةً ستكون في زيمبابوي، وستكون حينها قادراً على رؤية الشلَّال الرطب. أخبرونا سابقاً أنَّ باستطاعتنا الحصول على تأشيرة واحدة لدخول الدولتين معاً، مما يمكننا من رؤية الشلال من الجانب الآخر وقضاء يوم في زيمبابوي.

لكن حين وصلنا إلى حدود زامبيا (التي لا يستغرق عبورها أكثر من 30 دقيقةً عادةً)، انتظرنا ساعةً حتى أتت "كولين" لتخبرنا بأنَّ تغييراً قد حدث أمس في قواعد التأشيرات ولم يعُد باستطاعتنا الحصول على التأشيرة الموحَّدة. كانت جالسة في انتظار المدير لتتحدث إليه؛ فالأمور تحدث في أفريقيا بطريقة مختلفة تماماً.

وبينما كنا نغلي من فرط حرارة الجو، كان البائعون يحاولون دفعنا لشراء أي شيء. كان "وولتر"، الذي لا يمكنني وصفه سوى بأنَّه "غريب" (لكن غرابته لطيفة)، ذا حس فكاهة مُلهم يجعلنا جميعاً نضحك. خلع قميصه واستند بكوعه إلى الحائط؛ وحين اقترب منه أحد الباعة ليعرض عليه شراء شيء بدا مُحبطاً وقال: "لمَ أشتري منك بينما تمنعني حكومتك من دخول بلادك؟". كان تعليقه مضحكاً مع أنَّه كان غاضباً؛ مما أثبت لنا أنَّه كان بمثابة ضوء لنا وسط العتمة.

ذهبت إلى المكتب لأرى "كولين" (في الحقيقة ذهبت للتمتع بمكيف الهواء قليلاً)، طرقت بيديها على الطاولة ضاحكةً وقالت: "مريم! لقد اتصل والدك بي للتو!". وغني عن القول أنَّ جميع الآباء يقلقون، ولكن والدي قصة مختلفة.

هاتفي لم يكُن يعمل لبضعة أيام، وكما ذكرت له عدة مرات، سأحاول أن أرسل له رسائل لأطمئنه دائماً، لكن ستأتي أوقات لن يكون لديَّ فيها إشارة أو ستكون بطاريتي فارغة. على ما يبدو لم يكن هذا كافياً، وعندما اتصل والدي، اعتقدت "كولين" أنَّه كان المدير الذي كانت تنتظر مكالمته بفارغ الصبر؛ فأعطت الهاتف للسيدة المسؤولة عن مكتب الهجرة (اسمها يشبه اسمي بصورة غريبة). تحدَّثت السيدة إلى والدي وتعقدت الأمور بسبب حاجز اللغة؛ فظنَّ أنها تخبره بأني لا يمكنني الدخول إلى زامبيا بسبب مشكلة كبيرة حقاً. في النهاية فهمت "كولين" والموظفة أنَّه كان والدي وأغلقت الهاتف دون أن توضح له حقيقة ما كان يحدث. اكتشف جميع أصدقائي ما حدث، وحتى هذا اليوم يذكرونني باليوم الذي تحدَّث والدي فيه إلى موظفة الهجرة في زامبيا في الوقت الذي لم يتحدث فيه بعضهم إلى آبائهم وأمهاتهم لعدة أسابيع.

وبعد ساعات من الانتظار عند نقطة الحدود دخلنا أخيراً بتأشيرة لزامبيا فقط، وجلسنا في الشاحنة يملؤنا اليأس في انتظار الوصول إلى مخيَّمنا في "ليفينغستون". قيل لنا إننا ذاهبون إلى شرق أفريقيا؛ مما سيجعل فرص سحب النقود تقترب من الصفر. وفجأة شعرنا جميعاً بالقلق من حمل مبلغ كبير من المال لثلاثة أيام كاملة.

كانت واجهة مخيَّم "زامبيزي" المُطلة على البحر هي بالضبط ما نحتاجه. كان هناك حماما سباحة، واحد يقع بجوار مطعم مفتوح ومقهى ملاصق للنهر، والآخر بين الأشجار. نُصبت خيامنا في النهاية على العشب، ولكن في اليوم التالي لم تعُد الخيام تحمينا من أي شيء؛ فقد هطل المطر بطريقة لم نرَ مثلها من قبل، والهواء ما يزال رطباً، ونوافذ خيامنا مغلقة… اعتقدت أنني سأموت اختناقاً في أية لحظة.

في اليوم التالي قرَّرت مع "ووتر" و"جاسمين" أن نرتب أمر الأموال التي نحملها ثم نذهب إلى الشلال، معتقدين أننا لن نستغرق سوى 30 دقيقة للذهاب إلى المدينة وسحب النقود من الماكينة. وقد كنا على خطأ؛ فاستغرقنا أكثر من ثلاث ساعات. كانت كل الماكينات التي ذهبنا إليها أمامها صف طويل لن نصل لدورنا فيه قبل ساعة أو اثنتين، بغض النظر عن أنها لم تكُن تعمل أصلاً. كان نظام تشغيل الماكينات معطلاً أو أنَّ النقود قد نفدت من البنوك. وبالإضافة إلى ذلك، تم حظر التعامل على بطاقتي وشعرت بالذعر حين فكرت كيف سأقضي الثلاثة أسابيع المقبلة دون مال.

نسيت أن أذكر أنَّ نصف مجموعتي كانت ستنهي الرحلة هنا. كان هناك ثمانية فقط من أصل 22 سيستكملون الرحلة إلى كينيا؛ فكنا نحاول أن نقضي كل لحظة سوياً قبل أن يرحلوا. في صباح اليوم الذي رحلوا فيه ذهبنا لنسبح في "مسبح الشيطان"، الذي يقع على حافة شلالات فيكتوريا. كنت أشعر بقلق بالغ؛ فقد كان الأمر بالنسبة لي أكثر رعباً من القفز بالمظلة. لكن كل هذا تغيَّر حين وصلنا؛ فقد رأيت هناك أجمل قوس قزح رأيته في حياتي، وكان قريباً للغاية، ومن مكاني بمحاذاة الشلال أصبحت كل لحظة شعرت فيها بالخوف لحظةً رائعة.

سبحنا حتى وصلنا إلى حافة شلالات فيكتوريا، وكان اندفاع الماء قوياً للغاية؛ فالحمد لله على وجود الصخور. تمكنَّا من أن نستلقي على بطوننا لننظر إلى الماء وهو يندفع من أعلى إلى أسفل، وتسارعت دقات قلبي. كان جسدي كله يرتعد.

كانت لحظات وداع الأصدقاء هي الأصعب؛ فقد عرفتهم واقتربت منهم لمدة ثلاثة أسابيع من المغامرات. بعضهم لا أدري إن كنت سأراهم بعد ذلك أم لا؛ لكني سأذكرهم دائماً بالخير.

محطتنا المقبلة هي "مالاوي"، أفقر دولة في العالم، لكنها من بين أجمل الدول. وبعد أربعة أيام سنقضيها هناك سننطلق في آخر محطات رحلتنا: تنزانيا. وبهذه السرعة سنكون قد أتممنا 40 يوماً في رحلتنا…

"يُتبع"


** الصور من مدونة مريم حراز عن رحلتها إلى أفريقيا.. المزيد هنا، ويمكن زيارة حسابها على انستغرام هنا.

لقراءة الجزء الأول من هذه التدوينة يُرجى الضغط هنا
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
الجزء الخامس اضغط هنا
الجزء السادس اضغط هنا
الجزء السابع اضغط هنا

تحميل المزيد