غالباً ما ينتابنا شعور بالحيرة أمام نظرات يرمقنا بها الآخرون. هي نظرات غريبة وعجيبة، تحملك أحياناً إلى أعلى ثمَّ إلى أعلى؛ لتجد نفسك أخيراً متربعاً على عرش المثالية.. أنت حينها ملاك، كل أفعالك وأقوالك وآرائك صحيحة بالإجماع.. وفي لحظة غفلة تكاد تصدق أنك حقًّا ملاك.. وللأسف أحياناً تصدق ذلك.. ويالخطورة الموقف حينها.
وأحيانا أخرى ترمقك نظرة من تلك النظرات الغريبة، العجيبة.. لكنها نظرة حقيرة، تهوي بك إلى أسفل سافلين، لتضعك في خانة الشر والقبح.. أنت حينها شيطان مارد.. تتقاتل لوقت طويل من أجل اقتلاع هذه البطاقة التي ألصقها الآخر على جبينك.. وللأسف أحياناً تستسلم لتصدق حقًّا أنك شيطان في صورة إنسان.
كنت جالسة يومها في المحطة، حين لفت انتباهي نقاش غريب.. في الحقيقة لم تكن أول مرة أستمع فيها لهذا النوع من الكلام.. ولكن طول انتظار الحافلة كفيل بفتح باب للتأمل..
"يا أختي.. ما لا أستوعبه، إنسان يقول ما لا يفعل.. تعرفين فلانة؟.. حجاب طويل وصلاة وصيام وكلام فقط في الدين.. ويوم احتجتها واتصلت بها تعتذر بكونها ليست في البيت.. وتأكد لي أنها في البيت مراراً.. إن كانت غير قادرة على تطبيق الدين فلا تتكلم فيه أصلاً..".
تجيبها صديقتها: "هوني عليك فكل البشر منافقون.. ألا ترين المصلين في المسجد؟ اتبعيهم لتري فيهم الغشاش وشارب الخمر، وهذا يصاحب البنات، والآخر يسرق من أموال الناس..". وجعلت تذكر جميع الذنوب كبيرها وصغيرها..
انتابني شعور بالأسى والحزن على حالنا نحن البشر.. لقد رفعوا هذه السيدة إلى درجة الملاك من خلال مظهرها وكلامها، وربما لأنهم لم يسمعوا عنها إلا خيراً.. لقد ألصقوا شعار الملاك على جبين السيدة.. وصدقوا حينها أنها ملاك.. ثم لم يعد لها الحق في الخطأ.. وياويله خطأ الملاك.
مشكلتنا أننا لا نعترف بإنسانيتنا ولا نتقبل خصائصها. فمنذ بدأت عقولنا بالوعي وقراءة القصص ومشاهدة الرسوم المتحركة، كنا لا نركز إلا على شخصيتين لا ثالثة لهما، البطل وهو ذلك الصديق المخلص، الإنسان المهذب، لا يكذب ويضحي من أجل الخير، الجميع يحبه ويتبعه، نموذج مثالي كامل!
ثم شخصية الشرير، وهو الظالم المخطئ والعدو اللدود..
ونكبر لننقل هذه الرؤية إلى الواقع، ونرى الناس بنظرة من اثنتين، ونطلق حكماً من حكمين.. ويلصق بعضنا على البعض متى شاء بطاقة من بطاقتين.. حسب مزاجه وقناعاته لينتزعها متى شاء.. هذا ملاك.. وهذا شيطان.
أليس هذا ظلماً؟.. قد تجيبني بنعم.. ظلم أن أصف أحدهم بشيطان.. وأقول، أكبر الظلم أن تصفه بملاك.. لأنك بذلك تُحمِّله ما لا يطيق.. تنتزع منه خصائصه وفطرته لتحاسبه عن خصائص الملائكة.. فبأي حق؟
بداخلنا نواة تنادينا لكل جميل، هي تلك الفطرة. لكن على عكس الملائكة.. جعل الله لنا شهوات وغرائز ونقائص، فالإنسان هلوع جزوع عجول وضعيف، يؤثر ويتأثر بمحيطه، يفكر ويقلد ويختار.. وعلى عكس الشياطين هو يتقلب بين الخير والشر، يحاول إثبات ذاته ويحاول ترويضها كل حسب ظروفه، علمه، إيمانه، وقناعاته.. وغيرها من المتغيرات.
ننسى أنفسنا، ونعطيها الحق لنجعل فلاناً أفضل من فلان. وندخل فلاناً للجنة، وندخل فلاناً للنار. نعطي فلاناً درجة المؤمن التَّقي ونحكم على الآخر بالمنافق.
لقد سئمت سماع أحكام نطلقها على الناس بسبب خطإ.. طبع سيئ.. كلمة.. بسبب الشكل، بسبب المحيط أو الأسرة.. الجميع يحكم على الجميع.. والجميع له الحق والجميع مخطئ.. كفى حقًّا، فأنا إنسان..
أنا إنسان لا أبرر أخطائي، ولكن قد أبدو أحسن من غيري في ناظرك.. ولكن لدي أخطائي وزلاتي .. ربما لا تراها اليوم.. فإن علمتها غداً فلا تحتقرني.. فأنا لن أكون ملاكاً.
أنا إنسان قد أبدو غافلاً.. بعيداً عن الدين.. قد أكون غارقاً في المعصية.. لكن صدقني قد لا تعلم ما بداخلي.. نار تكويني؟ أورياح تعصف بي؟.. ربما سأتغير بل وأرجو أن أتغير قبل أن يحين موعد رحيلي.. لذلك لا تلعني ولا تشتمني فأنا لست بشيطان.
هوعبد الله، رجل آمن بالله، صلى مع رسول الله، وعاش مع الصحابة..
لم يكن عبد الله إنساناً مستقيماً في ناظر كثير من الناس.. فقد كان مدمن خمر.. عوقب بالجلد مراراً، ومع ذلك كان يعود إليه.. وفي إحدى المرات قال رجل من القوم "اللهم الْعَنْهُ، ما أكثر ما يؤتى به"، فأجابه معلم البشرية وخاتم الرسل محمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- "لا تلعنوه، فو الله ما علمت، إنه يحب الله ورسوله".
هكذا يعلمنا القدوة.. "فوالله ما علمت" إشارة أنه علم ما خفي عن العامة من الناس.. وأنت؟.. يا من تحكم عن الناس، ماذا علمت عما تخفي الصدور؟
صدقوني.. لو كنا لنعلم كما علم النبي، لأشفق بعضنا على بعض ولحزن بعضنا لحال بعض، لحرصنا على مساعدة بعضنا بعضاً، إذا لم يكن بالنصح فبالدعاء، وذلك أضعف الايمان.
سيظل الإنسان في قصة حياته يضطرب بين تمرد وخضوع في صراع أبدي بين الحق والباطل. ستمضي به الأيام ليكون أحياناً ذلك الطيب الصالح، وربما تخذله شهواته وعيوبه فيبدو ذلك الغافل المذنب.. فيه من الخير ما فيه.. وفيه من الشر ما فيه.. منها ما ظهر ومنها ما بطن..
أخي الإنسان، دعنا من الأحكام.. فالدنيا دار من الأوهام. احذرْ.. فكم من غافل تاب ولم تعلم به.. وكم من مستقيم خاب ولم تدرِ به..
هي ليست دعوة لاستباحة الخطأ، إنما هي دعوة للعودة للذات، والعمل على إصلاحها وعدم تتبع أخطاء الناس وإشهارها.. دعوة لعدم الشعور بالصدمة إذا تغير أو أخطأ الناس.. دعوة للتعاون، ليرحم بعضنا الآخر ولينصح بعضنا بعضاً.. وكفانا أكل في لحوم بعضنا بعضاً..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.