يونيو في عز قيظه. حافلات النقل الحضري المتعاقبة ترمي فضاء الساحة بأدخنتها.. المباني تنشر ظلالها رأفة بالمارة في يوم كهذا.. وبين الفينة والأخرى تهب ريح خفيفة تلطف الجو وتشي باقتراب فصل جديد. جلس "سميح" بالمقهى الفسيح المحاذي لفندق "ريجينسي" المتشح بنجماته الخمس كما عهد أن يفعل في دمشق ويطلب من النادل تلك العروس الجميلة التي تشم رائحة التفاح الصادرة منها من أقصى المدينة. استغرقت كعادتها وقتاً لتتجهز فتأتي لتجلس بقربه وتبدأ بمحادثته. آهات تعلو وهو يخاطبها ويشكو آلامه ومعاناته في بلد لم يقل له فيها أحد تفضل؛ لينشغل بعدها كعادته كلما حل بمقهى بالجالسين قربه، يفحص ما يصدر عنهم ويتفحص وجوههم بعد إعادة رسمها في مخيله. ينتبه إلى تعدد ألسنتهم. فهم ما فهم، وما لم يفهمه من حديثهم بقي منقوشاً في ذاكرته. "قمة الوئام بين البشر".. كلمات لا يدري كيف انسلت إلى نفسه، وكيف تولدت عنها رغبة جامحة في المَسْكِ بأطراف الفضول.
اِلْتَفَتَ "سميح" يمنة، فرأى بجواره رجلاً ذا سحنة أوروبية تغمر محياه بشاشة لم يعهد مثلها من قبل. قرأ في عمق نظراته تفاؤلاً ينم عن الإحاطة بأمور كثيرة، صعب على "سميح" سبر كنهها. تمادى في عناده لاستقصاء أمر هذا الأجنبي الذي ما فتئ يرسل إشارة بعد أخرى تنم عن جديته وعن تمرسه في قراءة الخرائط. تجرأ "سميح" وطلب منه خريطة وضعها للتو فوق الطاولة.
خرائطه لا تشبه الخرائط المألوفة كتلك التي كان معلم "سميح" يعلقها بانتظام على جدران القسم. اشتد ذهوله عند رؤيته لواحدة منها، حيث رتقت القارات الخمس، لا حدود بين البلدان ولا تفصل بينها لا بحار ولا محيطات. العالم قارة واحدة، بل بلد واحد على ما يبدو أو شعب واحد ربما. انتبه السائح إلى ذهول "سميح" فبادره بالقول: "هذه خريطتي، أومن بحقيقتها وأحقيتها في الانفراد بالشكل الذي توجد عليه.. لا للزج بالبشرية في متاهات التفرقة". وأضاف: "لماذا تعدد الخرائط؟ إن في كثرتها إيذاناً بالصراعات والحروب. فلماذا يا صديقي لا نكتفي بخريطة واحدة ونحد من الخلافات.. قد يبدو لك هذا الأمر بعيد المنال ومستحيلَ البلوغ.. لكنه أمل العديد من الناس البسطاء وأنا واحد منهم".
تأمل سميح في كلام السائح لتعود به ذاكرته لأيام الزمن الجميل وتمر أمامه السنين كسرب الأوز المحلق في الأزرق اللانهائي. تذكر أيام العيد، أرجوحة البيت القديم الذي كان يرسم عليها كلما سئم من شيء.
تذكر وسأل نفسه: هل يمكن أن يعود عالمنا العربي كما كان من جديد؟ فتتالت الأفكار والسؤال لا جواب له إلا مع الزمن.
عاد سميح ليجلس في غرفة مظلمة، تلك التي كان يكتريها في ذلك الحي المتواضع مع أربع عائلات قاسِمهم المشترك الهم والغم ومشاكل الدنيا التي ما فتئت تلاحقهم. جلس يتأمل الماضي البعيد المنزوي خلف الأفق، جلس يبتسم لظله المتماهي معه إلى حد ما، حتى لا يختفي في غيهب طالما تصوره كلما استيقظ من نومه. كانت للغرفة جدران سوداء فيها نافذة صغيرة لا تدخل منها أشعة الشمس ولا نور القمر.. تتوسط الغرفة لوحة عذراء ناصعة البياض لم تمسسها فرشاة ولم يخدشها قلم.
شرب "الفجر خمراً في كؤوس من أثير". انتشى بضباب لا كالضباب فراودته فكرة سبر غوره، مسك قلماً وأخذ يرسم ما عن له.. يرسم ما غاب عنه. رسم النور المفقود، رسم الزهور.. كل الزهور حتى ما ذبل منها.. والأشجار الباسقة، ورسم.. رسمها باللون الأصفر كما عهد أن يراها، فما الشام إذا لم يكن شمساً؟ خطّها بحروفها العربية وتوقف.. توقف ليسقط قلمه على الأرض مُحْدِثاً ما يشبه رنيناً في غرفة صماء. تكلمت أعينه لغة متمنعة، هاربة في عمق اللّحظة.. تكلم دمعاً متدفقاً كمطر يعشق الأنهار في أواخر تشرين.
عندما يغيب شعاع شمس الأرض يبقى شعاع شمس الوطن، وتزول كل الروائح إلا رائحة الحطب. عندما تنسى طعم الشراب لتتلهف لتذوق طعم كأس الوطن فاعلم حينها أن ذلك هو الحنين الى أرض الوطن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.