لم يعُد الدهان الواقي من الشمس يجدي نفعاً في هذه المرحلة، كان وجهي قد تحوَّل إلى الأرجواني. أرى الخطوط البيضاء حول حجابي والفرق بينها وبين وجهي فأظنُّ أن لوني تحوَّل إلى الأبيض والأسود.
وبالحديث عن الأبيض والأسود، فإن الحيوان الوطني في بتسوانا هو الحمار الوحشي، وفي علَمهم توجد خطوط بيضاء وسوداء. إنَّ القصة وراء هذا الأمر لطيفةً ولن أعِدكم بأن أرويها كما سمعتها، لكني سأبذل جهدي.
وُلِد "سيريستا خاما" في إحدى أقوى العائلات في بتسوانا حين كانت تسمَّى "حامية بيتشوانا لاند" تحت التاج البريطاني. تلقَّى تعليمه في المملكة المتحدة وحين عاد إلى بلاده تزوَّج امرأة بريطانية بيضاء، في وقتٍ كان الزواج بين البيض والسود مُجرَّماً في نظام الفصل العنصري.
كان "خاما" مجبراً على العودة إلى المملكة المتحدة مع زوجته منفيين من "بيتشوانالاند" في عام 1951. وبعد عدة اعتراضات وإثباتات لعنصرية الإجراءات المتخذة ضدهما، سُمح لهما بالعودة بصفتهما مواطنين عاديين. وبعد عدة أعوام حين حصلت بتسوانا على استقلالها في عام 1966، انتُخب "خاما" رئيساً للبلاد.
إنَّ السبب الذي يجعل الحمار الوحشي هو الحيوان الوطني في بتسوانا هو السبب ذاته الذي يجعل لعلمها خطوطاً بيضاء وسوداء: الرمز لوحدة اللونين، الأسود والأبيض والزواج بين الأعراق المختلفة؛ وحينها لم يعُد لون البشرة يُمثل مشكلةً، وأصبحت بتسوانا تفخر بكونها الدولة الأولى في أفريقيا التي تتخلص من التقسيم على أساس اللون.
بعد عشرين كيلومترًا من حدود بتسوانا لاحظنا إشارات تطلب من المارين الحذر من الفيلة في المنطقة؛ وبعدها أصبح من المعتاد رؤية قطعان منها تعبر الطريق فتتسبَّب في ازدحام حركة المرور أو ترعى على جانب الطريق.
يمكنك استنتاج أنَّنا كنا متجهين شرقاً بسبب المساحات الخضراء التي تلوح في الأفق. تُحيط بتسوانا حشائش السافانا، والعنبر، ومراعي الزيتون التي تملأها الشجيرات والأشجار المتباعدة بشكل غريب، وكذلك الحيوانات البرية التي ترعى في كل مكانٍ كلَّما استطاعوا. لم أتمكن من أن أفهم ما يدور بصورةٍ كافيةٍ حتى الآن.
إنَّ بتسوانا صغيرة، ولكننا استغرقنا مدة يوم ونصف اليوم قبل أن نصل إلى "موان"، وهو موقع مُخيَّمنا بجانب الدلتا مباشرةً. انقضى الوقت سريعاً؛ فقد قضينا اليومين الأخيرين في اللعب (لعبتنا المفضلة كانت "المونوبولي" (الاحتكار)، وكانت تتسبَّب في الكثير من مشاجرات التنافس لدرجةٍ تجعلنا نتوقف عن اللعب في بعض الأحيان)، واستمتعنا بالقيلولة عندما كانت درجة الحرارة معتدلة، وكنا نحاول غسل الملابس المتراكمة، والاسترخاء فحسب.
شعرت بقلقٍ شديدٍ من ترك ملابسي لتجف في الخارج؛ إذ كانت هناك الكثير من القرود في مخيمنا، تنتزع أي شيء في متناولها والله وحده يعلم ماذا يفعلون بها. كل ما أعرفه هو أنني لم أكن أنوي استعادة شيء استولت القرود عليه مني.
في الصباح اتجهنا إلى الدلتا، لكني لم أكن أتطلع إلى هذه الرحلة. قيل لنا في الليلة السابقة إنَّ أية حركة على "الموكورو" (وهو نوع من الزوارق كان وسيلة النقل التي استخدمناها) ستجعلنا نسقط في الماء، وقالوا لنا أيضاً إن نتجنَّب الحركة لأنه سوف تحيط بنا الحشرات الطائرة، والثعابين المائية، والأسماك، والحيوانات.
حزمنا حقائبنا الصغيرة لنحمل معنا الأساسيات فقط: ثياب النوم، وثوب السباحة، وزجاجة مياه تكفي خمسة ليترات، وقميصاً، وواقي الشمس، وبالنسبة لي جلبت معي أيضاً علبة من المناديل المبللة وكافة معدات التصوير.
غطّتنا طبقات من واقي الشمس ونحن نقطع مكاناً مهجوراً يمر النهر عبره في الشتاء. كان المكان شديد الجفاف ولا يمكنك فيه سماع أي صوت حتى صوت السيارة رباعية الدفع من خلفنا.
حين وصلنا إلى نقطة رحيلنا، ذهبنا -أنا وجاسمين- مع "ماما جوليا" (تُعد كلمة "ماما" تعبيراً عن الاحترام في أفريقيا) التي نقلت إلينا شعوراً بالثقة دون أن تتحدث.
كانت ثمَّة خلافات بيني وبين "جاسمين" في البداية، ولكننا تمكنَّا من فهم بعضنا بعضاً؛ إذ تفهَّمت قلقها من الوجود وسط مجموعة؛ فقد كنت مثلها ذات يوم، فكانت مجرد مسألة وقت قبل أن تنفتح على من حولها. كانت دائماً ما تتهكم على خوفي من الحياة البرية، وبقدر ما ضحكت بشأن هذا الأمر، كانت تحاول حمايتي، وأُعجبت بها بسبب ذلك. تماماً مثلما كنا جالسين في "الموكورو" فجلست "جاسمين" أمامي لأنني مذعورةٌ من أن أتعرَّض لهجوم الحشرات بينما نمُر بالشجيرات. أرتني أنَّ كل شيءٍ على ما يرام، وأنَّه لم يكُن هناك شيء يدعو للقلق.
كان جمال الدلتا لا يُصدَّق؛ كانت "الموكورو" التي نركبها مُصمَّمة بطريقةٍ تجعلنا بمحاذاة مستوى الماء حين نجلس فيها، والقصب يغطي رؤوسنا. كان الماء صافياً إلى حدٍ ما، تغطيه الأوراق والنباتات التي تنمو من تحته. كان زنبق الماء المتلألئ الطافي على سطح الماء يغطي الدلتا البرونزية والسافانا.
انحدر الزورق على الماء بين القصب في جوٍّ بالغ الهدوء، وأنصتنا لكل صوتٍ يصدره أي كائنٍ من حولنا، ورأينا الضفادع، والثعابين، والأسماك، وحتى الحشرات تسبح بمحاذاتنا. قضينا ساعتين حميميتين من الإبحار في الدلتا.
كانت هناك لحظة مررنا فيها بالقرب من فيل كان يرعى على حافة الدلتا، وإذ مررنا كان الماء منخفضاً للغاية، فبدا أن الفيل فوقنا تماماً مما جعلنا ننظر إليه جميعاً برهبة. أدركت حينها كم أحببت هذه التجربة، مع أنني كنت خائفةً للغاية من الوجود هنا. أحببت كل لحظة قضيناها؛ فقد أعطتني الطبيعة نوعاً من السلام لم أشعر به قط.
حين وصلنا أخيراً إلى الجزيرة تركنا الزورق، وكان الأمر يبدو وكأنَّنا كنا نسبح في الماء. كان العرق يتساقط من وجوهنا على قمصاننا وبناطيلنا ليلتصق بأجسامنا. أخذنا كل شيء من الزورق إلى مكان المخيم، وكانت أصعب مهمة قد تمَّت حين انتهينا. حفر السكان المحليون المصاحبون لنا حفرةً لتكون بمثابة حمَّام وأخبرونا بكيفية استخدامها. نصبنا مخيَّمنا في منطقة مليئة بالأشجار والشجيرات حتى كانت خيامنا مائلة بسبب الأرضية تحتها.
بعد عدة دقائق من تناول الغداء، لم تعُد "كولين" تتحمَّل الحرارة وقفزت في الدلتا وهي مرتدية ملابسها لتبرد جسدها؛ فأسرع الجميع خلفها. لم أعُد خائفةً أخيراً مما في الماء، فقد كانت الحرارة أهم من أي شيء آخر.
كان السكان المحليون مزيجاً من الرجال والنساء ذوي أعمار مختلفة. وبالإضافة للإبحار في الدلتا كانوا سيأخذوننا في رحلة سفاري على الأقدام وسيساعدوننا في إقامة المخيم. كانت صحبتهم لطيفةً للغاية. كانت مياه الدلتا مُنعشة؛ فسبحنا وقتاً طويلاً ولعبنا عدة ألعاب. وبعد أن خرجنا من الماء (بَقَت "كولين" مبتلةً حتى مرَّت ساعة)، وبدَّلنا ملابسنا، اتجهنا لنقوم برحلة السفاري في الجزيرة.
نبَّهونا لأن نكون هادئين للغاية حتى لا نعكر صفو الحيوانات، ولأن نسير في خطٍّ مستقيمٍ حتى لا يشعروا بأننا نمثّل تهديداً لهم؛ لذا كان كل ما استطعنا فعله هو الضحك. كانت الجزيرة رائعة. سرنا لمدة ساعتين وتمكنَّا من رؤية الفيلة، والحمر الوحشية، وقرود البابون، وفرس النهر. كان السير بينهم مختلفاً تماماً عن النظر إليهم من فوق شاحنة؛ فقد كنا نسير فنراهم من أسفل ودون أن يكون هناك ملاذاً للهرب.
حين عدنا كان العشاء جاهزاً وفي هذه المرة كان على النساء أن يُقدموا الطعام للرجال مستنداتٍ بركبةٍ واحدةٍ إلى الأرض حتى نقوم بالأمر بالطقوس البتسوانية. رفضت بالتأكيد أن أفعل ذلك.
بعد العشاء أشعل السكان المحليون ناراً وبدأوا في غناء أغنيتهم الوطنية الجميلة. لا أعلم أي شيءٍ تتسم به الموسيقى الأفريقية ذاك الذي يمنحني إحساساً لا يمكن وصفه. كل ما أعرفه هو أنَّها تشعرني بالرضا. ربَّما الأصالة في أغنياتهم هي ما تمنحني هذا الشعور، وربَّما أصواتهم الممتزجة الحنونة.
تخبرك هذه الأصوات بأنهم ليسوا في حاجة إلى سوق لصناعة الموسيقى مثلنا حتى يشعروا بالرضا والاستمتاع بما يقومون به. غنينا ورقصنا حول النار حتَّى لم نعُد نستطيع الوقوف على أقدامنا؛ فذهبنا إلى النوم شاعرين بالانسجام الذي ملأ المكان حولنا بفضل ما قام به السكان المحليون.
في اليوم الذي تلاه كنا ذاهبين إلى رحلة نهرية في نهر "تشوبي" لننهي رحلتنا المذهلة التي استمرت خمسة أيام في بتسوانا؛ وكُنا سنواجه أمراً لم أكُن أعرفه حينذاك: أسوأ أربعة أيام من رحلتنا في زامبيا.
** الصور من مدونة مريم حراز عن رحلتها إلى أفريقيا.. المزيد هنا، ويمكن زيارة حسابها على انستغرام هنا.
لقراءة الجزء الأول من هذه التدوينة يُرجى الضغط هنا
الجزء الثاني اضغط هنا
الجزء الثالث اضغط هنا
الجزء الرابع اضغط هنا
الجزء الخامس اضغط هنا
الجزء السادس اضغط هنا