لا شك أن إحصائيات التقارير الدولية وحتى المحلية حول مجتمعاتنا، تصيبنا بنوع من الذهول، وتبعث أعتى المدافعين عنها على الوقوف لبرهة، وتوليد أسئلة جديدة في محاولة أخرى لفهم أسباب تعثرنا الدائم على سبيل المجد الإنساني.
ولعل أهم الأسئلة التي تتكرر من طنجة إلى عمان هي: لماذا لا نقرأ؟
قبل أن نطرح هذا السؤال، يجب علينا الانتباه أن هذا السؤال مصاغ بطريقة سلبية. لا ضير أن نعيد صياغته ليصير على الشكل الآتي:
لماذا نقرأ؟
سؤال تبدو إجابته بديهية، بيد أنها ليست كذلك في معظم الأحايين. لنقل مبدئيًّا إن الإجابة في معناها الأوليّ هي أننا نقرأ لفهم العالم بشكل أفضل. إذن، سنجيب عن السؤال الأول بأننا لا نقرأ لأننا لا نريد أن نفهم العالم بشكل أفضل.
لم نسمع يوماً إنساناً يقول بهكذا قول، إذ من غير المعقول أن لا يريد الإنسان فهم ما يحيط به.
لكن لنغص، أيها القارئ الفطن، قليلاً في أغوار هذا الجواب ولنبحث، لعلنا نجد ما يشفي غليلنا.
إذا كان الإنسان لا يقرأ فليس لأنه لا يريد أن يفهم العالم بشكل أفضل. إنه يريد ذلك، لكنه يقول لنفسه، على مستوى لا واع ربما، إنه يستطيع فهم العالم انطلاقاً من تجربته الذاتية فقط، ومن هنا لا حاجة له بتجارب أخرى. وحتى إن كان يريد الاطلاع على تجارب أخرى، فإنه يمكن أن يشاهد فيلماً أو وثائقيًّا مصوراً، إذ إن القراءة تستدعي منه إعمال الخيال لتصوير ما يقرأه مشاهداً، وهذا العمل، بالنسبة له، يقوم به مخرج أفلام بشكل أحسن وإن كان موهوباً، يستطيع أن يدخله في تجربة حسية أغنى من قراءة كتاب. إذن، ما تبرير القراءة إن لم تك بغرض معرفة ثمن فاتورة، أوالاطلاع على عرض عمل على الإنترنت، ومعاينة الإيميلات وما استجد من أخبار سريعة على صفحات التواصل الاجتماعي؟
يبدو أن محاولة اختزال قراءة الكتب إلى مجرد عادة، كشرب القهوة مثلاً، يألفها من ألفها ويستطيع الاستغناء عنها من يستطيع، دائماً ما تبوء بالفشل. حتى وإن اعتقد صديقنا أن مشاهدة فيلم أفضل من مطالعة كتاب، فإنه لا يستطيع أن ينفي أن مخرج هذا الفيلم ما كان لينجح في إدخال المتفرج تجربة حسية فريدة لولا أنه شحذ خياله عن طريق قراءة العشرات والعشرات من الكتب. فإذا كان قد تعلم تقنيات الكاميرا من مشاهدة الأفلام، فإنه تعلم فن القص من القراءة، وبالتالي فإنه استفاد من تجارب كتّاب وقاصّين وشعراء وروائيين وغيرهم ممن دبجوا بيراعتهم أجمل النصوص.
إذن، يمكننا القول دون تردد، إننا نقرأ لأننا نريد أن نطلع على تجارب الآخرين ولا نستغني بتجاربنا فنكون ممن قال فيهم الله تعالى: "كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى". فنطغى في مواقفنا من الحياة والأحياء، ونستبد في آرائنا دونما اعتبار لآراء الآخرين وتجاربهم، والعجيب أن هذه الآيات جاءت بعد تبيانه تعالى لفضله على الناس أن علّّمهم القراءة والكتابة، إذ قال عز من قائل في سورة العلق: "اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم" وكأنه يقول لنا إن من لا يقرأ يرى نفسه مستغنياً، وبالتالي يطغى في مسالكه ومعاملاته مع الناس حوله، بل مع عناصر بيئته برمتها من نبات وحيوان، إذ لا يعلم لهم حرمة ولا يعلي لهم من شأن، لأن لا معلومات متوفرة لديه حول واجب احترام قدسية الحياة.
وأراني أختم الآن، بما وجدت نفسي أكتب ذات يوم، فأقول:
إنما القراءة تُلحقك بالطيور أسراباً..
كلما ارتفعتْ بك إلا ومسحتْ وراءها ضباباً وتركتْ مكانه جواباً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.