ذات مرة، وأنا أتحسس بدقة وتمعن نظر كلمات كتاب "المنهج الحركي للسيرة النبوية" للدكتور منير الغضبان، شرد خيالي إلى الوراء، نحو أيام الطفولة عندما كنت أقرأ كتب السيرة الميسرة، أقرأ بعجالة شديدة لأصل إلى لحظات الفرح والسرور، أتعدى المرحلة المكية بكل صورها وأشكالها؛ التعذيب والاضطهاد والقهر، أذهب إلى "بدر" وأتريث في القراءة في أحداثها، المبارزة ثم المعركة والنصر، أُعرض عن ذكر "أُحد" وأقلب بعض صفحات الأحزاب لأصل إلى لحظة انفضاض الأحزاب عن المدينة وفشل الحصار، ثم أقفز قفزة كبيرة نحو فتح مكة والانتصار الكامل على الوثنية المتمثلة في عاصمتها مكة.
كنت أغض الطرف دائماً عن أي لحظة ابتلاء مر بها المسلمون الأوائل، كنت أظن أن فترة حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- فترة سهلة ميسرة كلها انتصارات ومجد وعز، لا جدوى من ذكر بعض الأحزان والآلام التي تخللتها، فهي فترة مثالية كان النصر عنواناً لها.
أخذت هذه العادة تتغلغل في فكري عندما أقرأ أي كتاب يقع أمامي، أتذكر عند قراءتي أول مرة كتاب "الدولة العثمانية.. عوامل النهوض وأسباب السقوط" للدكتور علي الصلابي، وأنا أقلب صفحات الكتاب لأرى أي الخلفاء كان له سطوة ونصر دائم حتى وفاته، أنتقي الخليفة الذي لم يكن له هزيمة واحدة في معركة ما أو لحظة ألم مرت به وبخلافته، فأهرول مسرعاً إلى خلافة محمد الفاتح ثم سليمان القانوني وغيرهما ممن كانت خلافتهم تمتلئ بلحظات الانتصار والفرح.
كل هذا تذكرته لما شردت بخيالي بعيداً نحو فلسفتي الطفولية لقراءة كتب السيرة والتاريخ.
بالطبع كانت فلسفة خاطئة حصدتُ منها أخطاءً كثيرة عن تصوري -في طفولتي- للحظات التمكين والسيادة، فكنت أظن أن الإخلاص للفكرة مع بعض الاجتهاد، وتصور ورؤية على وجه جيد، كل هذا كان كفيلاً ببناء الدول والممالك وانتصار الأفكار، لم أكن أنظر إطلاقاً إلى العوائق والعواقب والحواجز التي تتكالب دائماً على الأفكار الوليدة، والتي تنهش في جسدها من حين ولادتها في عالم الأفكار إلى حين تمثيلها في عالم الواقع.
لم يندثر بشكل كامل هذا التصور مع نضجي الفكري، بقي منه مخلفات كثيرة ربما لم تظهر في لحظات الرخاء الفكري والواقعي، ولكنها ظهرت مع لحظات الأزمة والمحنة، فطول الصبر على المحن والتريث في الأحكام لم يكن موجوداً إلا بقدر بسيط، واستعجال الأمور والتشوق للحظات الانتصار مع الشعور باليأس والخيبة إن لم يكن هناك بارقة أمل في الأفق كان سَمْت هذه المحنة.
عندما أعملت العقل وأنا أقرأ في الحقبة المكية للعهد النبوي وأنظر إلى حكمة الرسول (ص) في بث الصبر والمجاهدة في نفوس أصحابه المضطهدين في مكة، الذين لم يكن لهم من القوة والبأس لرد العدوان أو تخفيفه عنهم، كنت أجد الحقيقة الكاملة في ذلك، فالتمكين وإقامة الدول أو الانتصار بالفكرة بشكل عام يجب أن يسبقه تعب ونصب على قدر الفكرة التي تريد أن توصلها للناس من حولك، أي: مع عظم الفكرة يكون عظم البلاء، وذلك كله حتى يكون للنصر جدوى وأهمية؛ لأنه لم يأتِ بالراحة، فما جاء بالراحة لا يمكن أن يظل ويترسخ وزواله حتمي وقريب.
بعدما نضجتُ إلى حد ما وتحسستُ الخطأ، أصبحتُ على قناعة تامة أن قراءة التاريخ بدعوى المعرفة فقط هو خطأ هين في مقابل قراءة التاريخ لإشباع رغبة الانتصار والعز والإباء فيمن ننتسب إليهم، وأن صناعة التاريخ تختلف اختلافاً تاماً وتتمايز عن قراءته، فصناعة التاريخ تتطلب الجهد والمشقة وربما بذل النفس والمال لتحقيق المطلب وترسيخ الفكرة والانتصار بها ولها، ولكن قراءة التاريخ تتفاوت بين محاكٍ له ومتعظ منه، وباحث عن الحقيقة بين دروبه وبين قراءته للمعرفة وقراءته لإشباع الرغبة -الفلسفة الطفولية- وكل هذا لا يبلغ حد صناعته ولا التألم بما تألم به صانعيه.
ربما علينا أن نربي صغارنا جيداً على الخطوات المتدرجة والسنن الثوابت لإقامة الفكرة والانتصار بها، والتدرج معهم في فقه الحدث ومسبباته وسوابقه، حتى يعي الطفل جيداً طور الانتصار بفكرته، ولا يبلغ منه اليأس أو الخيبة منه ما بلغ غيره مع أول اختبار له، فيسقط نحو الهاوي غير مأسوف عليه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.