قبل أيام كنتُ في لحظة وداع مع مرحلة من عمري لطالما تغنيتُ بها فخرًا وطموحًا، مرحلتي الجامعية التي أضافتْ إليّ الكثير في شخصيتي ورصيدي، لم تكن مجرد مكان يستوعب محاضراتنا أو معامل نجري فيها تجاربنا، بل أكثر من ذلك، فقد كانت الحاضنة الأولى لأعمالنا التطوعية في حياتنا، وقد كانت محطة الاجتماعات واللقاءات الأنسب للجميع.
دخلتُها من بوابة قاطع الجفارة شابًّا يافعاً يراها في مخيلته أنها أصعب مراحله الأكاديمية، ليكتب القدر أن أمكث فيها خمس سنوات ونصف السنة، وأخرج منها عبر بوابة كلية الطب البشري في ذكرى إجلاء القوات البريطانية عن ليبيا!
لم أكن محظوظًا كحظ طلبة سنة ثالثة ثانوي هذا العام عندما ستنوّر بصيرتهم حملة طلابية جامعية تهدف إلى زيادة وعييهم تجاه التخصص الأكاديمي الذي لم يحسموا قرارهم فيه بعد، الحملة الجامعية التي حملت اسم "قرار"، والتي يمكنكم متابعة جديدها على الرابط التالي:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=967297936671709&substory_index=0&id=270350043033172
ولكن كنتُ محظوظًا بحصولي على بعض الاستشارات من الأهل والمتخصصين لإرشادي نحو التخصص المناسب، فتخصصتُ هندسة ميكانيكية شُعبة قوى، لأتعمق في علوم الموائع والحرارة والمحركات، لأفهم مبادئ فيزيائية تحدث حولنا كل يوم ولم نعرِ لها انتباهًا، لأستوعب أن شاي الصباح لا يسخن أكثر من مئة درجة مئوية طالما أنه بدأ في الغليان، ولماذا الجلوس تحت قبة الجامع عادةً ما يكون أبرد النواحي داخل المسجد؟ ولماذا لا تُحسب ركلات الترجيح في حال تقدم حارس المرمى خطوة إلى الأمام؟ كل هذه الأسئلة أشبعت فضولي من خلال الهندسة بصفة عامة، ومن خلال الهندسة الميكانيكية بصفة خاصة، وما زلتُ أصنف نفسي جاهلًا.
بقدر ما سأعدد ما استفدته من مرحلتي الجامعية، فلن أفي حق هذه المرحلة فيما أضافته لي، فقد تعلمتُ:
أن الامتحانات الدورية والنهائية والواجبات المنزلية والامتحانات المصغرة (Quizzes) والتقارير الفنية ما هي إلا أحمال تضاف على عاتقنا، لتعوّدنا بعد ذلك في حياتنا العامة كيفية تنظيم جدولنا وتوزيع الأحمال بحيث لا يقع الثقل على ليلة واحدة وننهار.
أنه ما كان لي أن أقول إني عملتُ تطوعًا أو خضتُ العمل في فرق لولا وجودي المحدود في مؤسسات مدنية عاملة في نطاق جامعة طرابلس، وأهمها كان فريق طلبة الهندسة الليبيين (LES Team).
أن أقف أمام جمع من الطلبة والأساتذة وأتحدث وقلبي يرجف بين يدي، وأبرر موقفي وأدافع عن قضيتي في بطولة مناظرات جامعة طرابلس التي شاركتُ فيها رفقة صديقين عزيزين لنخرج خاسرين من البطولة، ولكن فائزين بمقدرة على اختراع البرهان وابتكار الحجة في ظرف ثوانٍ، وكيفية أن نقف ضد قناعاتنا الشخصية رُغمًا عنّا.
أن أستمتع جدًّا بأدائي الجيد الذي قدمته في امتحان مصغر (Quiz) والذي لا تُقدر نسبته من نسبة المقرر سوى 2%، ولا أضايق نفسي بأداء مخيب للآمال في امتحان نهائي تقدر نسبته من نسبة المقرر بـ50% تطبيقًا للدعاء الجميل "اللهم لا تجعلْ الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا".
أن أسلوب التكرار والخطأ (Trial and Error) الذي استخدمناه في مناهجنا الهندسية لغرض الاقتراب من الحل الصحيح، ما هو إلا دليل على أن الحياة تجارب، وما تزيدنا التجربة تلو الأخرى سوى خبرة في اتخاذ القرار الأنسب والأصح.
أن العقل البشري الذي يزن قرابة ستة كيلوغرامات للإنسان البالغ، قادر على استيعاب وتخزين معلومات لكتب ومذكرات تزن عشرات الكيلوغرامات، وحفظ محاضرات ذات صوت وصورة بسعات قد تصل إلى مئات "الغيغا بايتس"، لنشكر ربنا الذي أحسن خلقنا على هذا العضو الإبداعي، والذي يجب علينا أن نسخره لصالحنا ولصالح بلادنا بكل ما ملكنا من قوة.
لأختتم بما قاله مايكل فورتين عندما قال إن "اللحظة المهمة ليست أثناء الوصول إلى قمة الجبل، وإنما الاستمتاع ونحن في الطريق بالمناظر الجميلة"، لأعيد وأصيغها بأن نقول إن "اللحظة المهمة ليست أثناء مناقشة مشروع التخرج، وإنما الاستمتاع بالصحبة الطيبة والاستفادة من العلوم الممتعة أثناء الطريق إلى البكالوريوس".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.