هناك كتب تغير العالم
وهناك كتب بعد أن تنتهي منها تضعها على الرف
وكتب تقرأها وتنسى بأنك قرأتها
وكتب تقرأها فتلقيها بأقرب سلة قمامة
وكتب تقراها وتلعنها
وكتب تقرأها وتقرأها وتقرأها..
وكتب تقرأها وتفهمها وتحكيها وتحفظها وتصادقها وتعشقها لأنها تلامس شيئاً بعيداً في الروح.. شيئاً بعيداً في الذاكرة
بابيون أو الفراشة أو هنري شاريير.. كل هذه الأسماء تعني شيئاً واحداً. الحرية بأي ثمن.. الإصرار لنيل الحرية حتى لو لم يكن هناك بصيص من أمل؛ الإصرار على نيل الحرية مهما اشتد حلاك العتمة حتى في انعدام كافة السبل وانحسار الطريق إلى مسار الموت المحتم والتفكير في غير ذلك يعد درباً من الجنون. إلا أن بابيون لم يؤمن بهذا المنطق ولم يستسلم.
في الخياليات قد نجد الأشياء الكثيرة التي تستفز التخيل. إلا أنها في النهاية تبقى خيالات، والحقيقة حينما تكون أبعد من الخيال رتقاً وأوسع من الأماني شسعاً فإن ذلك لا يعني إلا شيئاً واحداً هو بابيون.
نعم، إنها الحقيقة التي لا يقوى الخيال على السير في سرادقها فالخيال لا يمكن له الوصول إلى مثل ما قد وصلت إليه الحقيقة في مثل حالة بابيون.
بابيون أو شاريير أو الفراشة هو الشهاب الذي أوقد جذوة الحياة في حطب الموت.
هنري شاريير ذلك الشاب الفرنسي اليافع الذي ساقه قدره أن تتلبسه تهمة القتل دون جرم فعله، فيُنفى إلى أغويانا الفرنسية على ضفاف الكاريبي في أميركا الوسطى مدى الحياة، ولم يكن في ذلك الحكم أي قصد آخر إلا حكم الموت.
إنها الملحمة الواقعية التي لا يمكن للخيال أن يطاول عنانها مهما كان اتساع مخيلة كاتبها. الشخصيات في الرواية، كثيرة ومتنوعة، ما منح الرواية قيمة أن تكون عملاً يدرس الشخصيات الإنسانية بكل عفوية وبساطة، والشخصية الرئيسية فيها، يظل يدق بيديه على باب الحرية، فهي معركته وهو لا يريد غيرها. هاجسه الوحيد منذ وصوله إلى السجن إلى لحظة هروبه، إنها قصة إنسان تآمر عليه المجرمون الحقيقيون ليزجونه في السجن المؤبد، بعيداً عن مجتمعه.. وهو تخلَّى عن كل شيء ليصل إليهم، وخلال ذلك يقدم لنا عالماً غريباً ومدهشاً، مما رآه في عالم البحر، وعالم السجون، وعالم اليابسة أيضاً..
رواية الفراشة التي لم تكتب من خيال، بل من حقيقة واقعية، لا تبدو على اسمها، فمن يقرأ العنوان يظنها شاعرية أو رومانسية أو نحو ذلك وهي في الحقيقة موجعة في الألم، قصة حقيقية للمؤلف في السجون، ليس الفرنسية فقط، فقد تنقل في سجون عديدة لاإنسانية، قضى فيها ثلاثة عشر عاماً، ولم يكن يذعن لسجانه، وينتظر دنو أجل الحرية، وإنما كان يحاول مراراً وتكراراً الهروب وقد اشتهر في السجون كلها بأنه يهوى الهروب ويحاول قدر المستطاع. وعندما تقرأ تظن أنك تشاهد فيلم (أكشن) لمحاولة هروب من السجن، ولكن حين تقرأ الرواية ستجد أنها سيرة لحياته في السجن، فلم أصدق. شيء خارق، ومحاولات خطيرة، ورمى بنفسه بهويات القدر الساحقة، فمرة تجده ضمن قبيلة للهنود الحمر، ومرة تجده يقتل أو يحاول قتل حرس في السجن ليهرب، ومرة يفجر جداراً ليهرب، ومرة يمثل دور الجنون ليدخل عنبر المجانين، ومرة يرمي بنفسه في البحر بعد مراقبة تحركات الأمواج وقوتها وأن الموجة السابعة هي القوية والكفيلة بأن ترمي به في لج البحر هو وصديقه، فيجعل نفسه فوق حامل واهٍ وغذاء قليل ليحمله المد والجزر للضفة الأخرى، ويغرق صديقه ولكن ليس في البحر وإنما في الوحل، ثم يجد نفسه بين يدي أناس خطرين، قاتل محترف، وهارب، ولكنه يجد بغيته دائماً من المتعاطفين معه، ومن يريدون المساعدة فقط، وما إن يستقر في مكان آمنا حتى يهجره لسبب أو لآخر ويقع في مأزق جديد، وحتى النهاية بعد أن أخذ حريته في بلد ليس بلده، وصار مواطناً شريفاً في نظر الدولة.
إنها ملحمة إنسانية حملت الكثير من العواطف، الحب، الكره، الرحمة، القسوة، الظلم، القهر، الأبوة.. والكثير من التعب والقهر النفسي والبدني..
اسم الرواية جاء في مرحلة عابرة من أحداث الرواية، وليس بذي أهميه في مسار الرواية، فقد كان يدير مطعماً ويبيع الفراشات لصالح صيادي الفراشات، وطلب منه رجل أميركي نوعاً معيناً من الفراشات ويريدها خنثى، وقال سأشتريها منك بخمسمائة دولار، اكتشف فيما بعد أن قيمتها ألف وخمسمائة دولار، ركّب جناحي فراشة على جسد فراشة أنثى لخداعه، وليكتشف الأميركي الخدعة فيما بعد وتأتي الشرطة لتحمله ويمثل أمام المحكمة، ولكنه يخرج بسلام لأن الأميركي غشه بقيمتها. ربما كان اختيار اسم الفراشة من هذه القصة؛ لأنه قارنها بقصة دخوله السجن وهذه، فكلاهما في محكمة ولكنه أخفق في الأولى ونجح في الثانية.
إنها معركة إنسان لا يلين في سبيل الحرية.. وفي مواجهة حالات يلقى فيها البشر للنمل اللاحم ليأكل الإنسان وهو حي، بالضبط هي الحرية أو الفراشة أو بابيون كما تشير الرواية، ويقال إنها السبب في أن فرنسا ألغت حكم الإعدام.
إنها ملحمة إنسانية تصرخ بالجمال والروعة والصدق، تحمل في طياتها كل ما هو خارج عن المألوف، مجموعة مغامرات نقرأها دون توقف تحكي قصة إنسان يطرق باب الحرية بكلّ ما أوتي من قوة، ولم يكن يرجو إلا بطاقة شخصية تجعله يسير بين الناس بأمان، يذهب إلى البحر، ويأتي إلى البيت، ينام ويستيقظ ويذهب إلى عمله، ويعود منه.. لا شيء يضايقه أو يمنع الحرية عنه.
لقد أفاض "هنري شاريير" حينما باح بألمه المرير، حتى أصبح قلبه نظيفاً من الداخل ما انعكس إيجاباً على سلوكه، حين أنهى رحلته الأليمة هذه بمحبة غير محدودة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.