("إيما" أو أمي بالعربية، قصة زوجة من منطقة تودغى في بلاد المغرب، تسلط الضوء على الواقع المعيش لنساء هذه المنطقة النائية، وتختزل صورة المرأة ودورها في هذا المجتمع الصغير).
صياح الديك قد علا في الأجواء، تستفيق على ريق أصاب شفتيها بشقوق تنسال منها من حين لآخر خيوط من الدم، خاصة عندما تشتد البرودة مع صقيع الصباح في فصل الشتاء.
بعد سويعات من نوم يطاله الهناء في أغلب الأحيان، بعدما أدت ما عليها من حق لزوجها الذي غادر الفراش صوب جامع الحي قبل لحظات. هنا في حاضرة تودغى التي تمتد على طول ثلاثين كيلومتراً بين ضفاف الواحة، النمط اليومي لنساء هذه المنطقة يكاد يكون واحداً، يُتقاذفن فيه بين المنزل والواحة والحي على طول العام.
روتين يومي يترنح معه المزاج، بعيداً عن صخب المدينة وبعيداً عن الخطابات الرنانة لجمعيات تعتلي عرش الدفاع عن حقوق المرأة. على عجل ترتب الفراش فمشاغل اليوم على كثرتها، رزقها الله عقلا نيراً تتشعب معه أياديها في كل الأماكن والأرجاء.
سفرة طعام الفطور قد أعدت، تنتظر رجوع رب البيت الذي اعتاد أن يشرب "حريرة الذرة" على الريق، معه بضع ثمرات وكأس حليب طازج، قد حلبته لتوه بعد أن أطعمت البقرة التي ترعاها بالإضافة إلى بعض رؤوس الغنم، خليطاً من "الشمندر ونخالة القمح" كانت قد أعدته الليلة الماضية. البقرة في هذه المنطقة رمز للعزة تتفاخر به النساء فيما بينها ما زال يقاوم زحف ما يسمونه بالتحضر، فنصف لتر من عند البقال يتكلف الابن الأصغر بإحضاره أسهل بكثير من عمل دؤوب يثمر رشفة حليب طازج.
للبيوت في الجنوب الشرقي طابع خاص يميز منطقة ما بين الأطلسين، تتكون من شقين في أغلب الأحيان، شق سكني بني على الطابع العصري على شاكلة الفيلات في المدن مع غرف أكثر وصالونات أرحب وأوسع، تسع سكان القبيلة في المناسبات، وشق آخر مخصص للماشية والبقر غالباً ما يكون بيتاً قديماً مبنياً من الطين "التابوت" تم التخلي عنه بعد زحف الإسمنت، تفصل بينهما حديقة بسيطة بساطة طبع السكان. علاقة أهل هذه المنطقة متجذرة مع الواحة وحقولها، كانت مصدر الزاد والمأكل والمشرب، تراجع الاعتماد عليها منذ تسعينيات القرن الماضي، فالشيخوخة قد دبت في أولائك الذين عمروا أراضيها طوال تاريخ هذه المنطقة، يرجعه بعض المؤرخين إلى أكثر من اثني عشر قرناً، إضافة إلى فترة الجفاف الذي ضرب العقول بعد الحقول. الجيل الناشئ لم يعد يكترث، همومه غير هموم السلف، شباب ونساء اليوم لم تعد تستهويهم حياة الحقول وجنباتها، فمغريات التمدن والتعولم انغرست وأصبحت من عادات روتين الحياة اليومي.
أكملت الشمس شروقها، سفرة الطعام قد جمعت، كدستِ الأواني فوق طاولة المطبخ، ستتفرغ لغسلها حين عودتها من رحلة يومية تنتهي بها هي وزوجها، الذي انصرف لتجهيز الدابة بسرجها ودفتيه، في حقل يحصدون فيه من محصول "الفصة" ما يكفي لزاد اليوم كعلف للبقر والدواب، ما يتبقى منه تقوم ببسطه تحت الشمس حتى يجفف ليتم تخزينه لمحن الشتاء.
الحقول في ملكية الزوج في غالب الأحيان، قليلات هن النساء اللاتي يرثن ما ترك لهن آباؤهن أو أزواجهن في هذه الزاوية من العالم، بسبب بعض الأعراف والتصرفات التي لا أصل لها من الشرع الإسلامي، تغيرت الأمور كثيراً في فترة ما بعد الاستقلال وبمؤسسة القضاء، وأصبحت تنصف النساء على أساس القوانين المعمول بها في الإرث.
قبل الذهاب إلى الحقول أو "أيكَران" كما يطلق عليها بالأمازيغية، تكدِّس بعض الأغطية الخفيفة فوق عجين الخبز حتى يتسنى له أن يختمر. كل شيء محسوب بدقة. ساعة ونصف تستغرقها بين الذهاب والرجوع كافية لأن يخمر العجين قبل أن تلفحه نار الطهي بمجرد عودتها. تعد خبزاً طازجاً محشوًّا بخليط يُعد من دُهن الخروف ممزوجاً ببعض التوابل والبصل، فطور شهي للأبناء يأكلونه مع الحليب أو الشاي بمجرد استيقاظهم، فاليوم يوم عطلة ولا مدرسة اليوم. في طرفة عين التهموا ما التهموا وانصرفوا يجرون أمامهم كرة مفشوشةً، تَستصرِخهم وتتوعدهم إن رجعوا موسخي الثياب، ملطخي الأوجه بالتراب والغبار. هكذا حالها معهم دائماً، يفعلون عكس ما يُؤمرون.
ودعها الزوج منصرفاً إلى مركز الحاضرة تنغير، حاملاً معه همّ مصاريف طلباتها من متطلبات البيت ومؤونة هذا الأسبوع، الأب فلاح اعتاد على الأكل مما يزرع وفي رزقه بركة من السماء، يعينه على الشدائد ابن له كان قد هاجر في فترة ما بعد الاستقلال قبل اندلاع الأزمة مع الجزائر.
"موغى"، أجنبي كان قد قدم من بلاد الشمال ما وراء البحر المتوسط أيام الاستعمار يجند العمال من سكان المنطقة من أجل العمل في مناجم وسكك الحديد في فرنسا، هو أحد الذين أدخلوا فكرة الهجرة إلى فرنسا من أجل العمل، التي أصبحت فيما بعد أكبر فضل على هذه المنطقة، ربما أكبر من فضل الدولة بذاتها، فلا يكاد يخلو بيت في الجنوب الشرقي من ابن أو قريب مهاجر في ديار المهجر، يدر على عائلته من حين لآخر بعض الألوفات حين تشتد الأزمات، مع بعض التجهيزات المنزلية والحديثة التي يستقدمونها في رحلة الصيف، مرفقة بروح التحضر التي تسود هنالك حيث أحفاد النبي زكريا.
في الصيف لا تنقطع أحاديثهم وتهكمهم على صيرورة الأمور في المرافق العمومية والمستشفيات مقارنة بنعيم الشمال، حيث تحضر الديمقراطية ويغيب الفساد.
أسطوانة تكاد تصدَأ، يُسمَعُ صداها بين الفجاج كل صيفٍ، حتى حفرت شرخاً عميقاً لذاتها في أحلام شباب المنطقة عن سبيل الخلاص وفردوس تحقق الآمال: جسر يمر فوق أرض الوطن إلى بلاد أرحم.
تمر السيدة الفاضلة على غرف الأبناء ترتبها الواحدة تلو الأخرى، فوق ساعدها الأيسر اجتمعت كتلة من الغسيل، وجدت لها مكاناً بجانب صنبور يعاملها بالود والعطاء، كلما استجادته بعضاً من القطرات يفيض سيلاً من الماء الدافئ أحياناً، البارد في أغلب الأوقات. فترة الزوال قد اقتربت، تعود إلى مطبخها في خطى بدأ يدب فيها بعض الإعياء والحسرة، كيف لها أن تقوم بكل هذه الأعمال وحدها؟ مدركة أن التحسر لن يفيد في شيءٍ، وهي ذات نفس وشهامة لا تستسلم بسهولةٍ، صوت شجي يُرسل إلى الأسماع تراتيل موزونةٍ بالأمازيغية تتعود النسوة على نشدها أثناء الطبخ، يتراقص السكين فوق الخضر، معه الأنامل تتلذذ بطبخة اليوم: طاجين بلحم مملحٍ، تراصت فوقه الخضر مع عصير الخيار بالليمون.
تستكمل ما تبقى لها من الغسيل، ترتيلةٌ بعد أخرى، ثوب بعد آخر، تسرق بعد اللحظات للتأكد من أن كل شيء يسير على ما يرامَ في المطبخ. أذان الظهر قد أذن، دخل الأطفال على عجلٍ وقد عكَفوا على تنفيذ عكسِ وصيةِ الصباح على أكملِ وجهٍ. مدركة أن الصياح والعتاب لن يفيد بشيء، فردةُ حذائها أصابت الابن الأكبر على مستوى الكتفِ، صارخاً ضاحكاً في ذات الآن، الابن الأصغر ذو الاثنتي عشرة سنة وقع ضحية وخزةٍ أليمة في الفخذِ، عندما فلت منها نطّ متحدياً ضاحكاً أنها لم تؤلمه، تعودت على أفعال الصبيان، بحكمة أمرتهما بالذهاب للاستحمام، اصطفَّا في صف واقفَين وقفة العسكري يلقون التحيةَ: حاضر يا أماه! علت على محياها ضحكة راحةٍ وابتهاج. في ذات الأثناء دخل رب الأسرة ملقياً تحية السلام، اجتمع الجميع على طاولة الغذاء.
الشوق إلى فترة ما بعد الغذاء قد دب في نفسها، وقت الراحة والترويح عن النفس، الوقت الذي يتبقى لذاتها وحدها، ربما كذلك أظن! مخلفات الصباح وجبل الأواني الذي تعظم في المطبخ هُدم، تراصت الصحون، الأمامي يَسند ظهر الذي خلفه، كتيبة عسكرية من الكؤوس اصطفت بإحكام تلمع، كما فعلت قبلها الوسائد في الصالون وباحة المنزل. تسرق ساعة من النوم والراحة قبل أن تنزع عباءة ربة البيتِ، لتستبدلها بعباءة فاعلة الخير القيادية بين نساء الحيِّ، لتلتحق بجامع الحي، حيث تجتمع النساء من أجل دروس في الدين ومحو الأمية تسهر عليها مرشدة دينية من بنات المنطقة، حازت على إجازة في الدراسات الإسلامية.
نساء جيلها لم يكن محظوظات كما بنات جيل المرشدة، ظُلمن في فترة طفولتهن بسبب عرف يمنع البنات من الدراسة آنذاك -إلا قلة قليلة منهن ممن كان آباؤهن متبصرين يستطلعون المستقبل- ينتهي بهن المطاف في بيت الزوجية، وهن شابات صغيرات في وسط عائلات كبيرة متشعبة من الأعمام، وأبناؤهم يحكمها كبير الدار، يتفرغن فيها للعمل في الحقول والبيت وغزل الصوف وهنَّ يافعات لا يقدرن على كل تلك المشقة، خاصة إن كانت لا تحظى بحظوة القرابة من قائد أو قائدة البيت، كأن تكون زوجة ابنها تعاملها معاملة تفضيلية عن البقية من الزيجات. كل واحدة منهن تحمل معها قصة عن تلك الفترة العصيبة التي كانت سبباً في ثباتهن وصمودهن ورزانة عقولهن، نساء علمتهن التجارب ما لا تعلمه المدارس، نساء صمدن مع أزواجهن واحتار معهن الصبر والمعاناة، من أي معدن صلب خلقن وعلى يد من تربين؟
مع ذلك تَرَاهُنّ مبتهجات نشيطات تأسرك رغبتهن في التعلم من جديد، يلتحقن فرادى أو جماعات بالدرس بلباسهن المميز عن باق المناطق، ثوب أبيض فضفاض يسمى "أشطاط" يُلف على الجسد، يوحدهن كأنهن جسد واحد، لا تميز الواحدة من الأخرى. حين تخطئ الواحدة منهن في نطق كلمة يضحكن على بعضهن، فرصة للترويح عن النفس ونفض تعب النهار. يختلسن بعض النقاشات البينية بعيداً عن أعين المرشدة تماماً كما يفعل الأطفال في المدارس.
بانتهاء الدرس قبل ساعة من صلاة المغرب، يجتمعن لمناقشة بعض الأمور التي تخص تجمع نساء القبيلة "إد متقبيلت"، فالصيف قد اقترب وأهازيج الأعراس ستعلو قريباً في الأجواء، تجمع شبيه إلى حد كبير بمفهوم الجمعية، لكنه عرفي تضامني بينهن، لديهن قوانينهن الخاصة، وميزانيتهن الخاصة تساهم فيها كل واحدة منهن حسب مستواها المادي، حتى اللائي يقطنَّ خارج أرض الوطن، ونظام عمل تدويري تتكلف فيه الواحدة فيهن بالعمل الذي تبرع فيه كطبخ الدجاج أوالكسكس..
يلتجئن إليه سواء في المناسبات كالأعراس أو المآسي حين موت أحد من القبيلة. تأخذ الكلمة وتنبه إلى بعض المستلزمات التي يجب اقتناؤها، تتطوع مع بعض النساء من أجل ذلك. نظام تطوعي بينهن ينبني على التشاور والتوافق والالتزام بما تقرره الجماعة، من لم يلتزم منهن، تفرض عليها غرامة محددة سلفاً، أو قد تفقد حق الاستفادة من ما يعود لملكية الجماعة. في مناسبات الأفراح يحق لربة بيت العرس أن تستفيد من كافة المستلزمات المكلفة ماديًّا من أواني الطهي والأفرشة. وفي العزاء يتكلفن بزاد الثلاث أيام من أكل وشرب وأفرشة المبيت لجميع المعزين سواء من الرجال أو النساء القادمين من كل حدب وصوب على طول الواحة. نموذج اجتماعي فريد من نوعه تختص به منطقة تودغى أساسه التضامن والتكافل الاجتماعي: الفرح فرح للجميع، والمأساة تصيب الجميع. نظام يقف صامداً شامخاً أمام النزعة الذاتية التي تدب في أوساط الجيل الجديد.
تمر برفقة جارة لها في طريق العودة عند سيدة توفي زوجها منذ أربعة أسابيع تتفقد حالها وحال عيالها، وهي فرصة أيضاً لتسترجع قِدْراً للطبخ تركته النسوة عندها ريثما يخِفُّ صبيب الزوار المعزين، زوجها كان رجلاً طيباً يعرفه العام والخاص، وزيارات المعزين في هذا المنطقة قد تستمر أسابيع متتالية، فكلما علم أحد بالخبر قدِم ليؤدي ما عليه من واجب التعزية. النجوم بدأت تتراقص كالثريا في السماء، نسيم عليل قادم من الواحة وراء صف المنازل ينتشي معه الأنف والعقل.
تُسرع مهرولة الخطى نحو البيت، تتفقد عودة الأولاد من اللعب واللهو طيلة النهار، تمدهم ببعض من الخبز مدهوناً بزيت الزيتون وزبدة تستخلصها من مخيض اللبنِ، معه شاي أعد على عجلِ، حل مؤقت ريثما يُنصب العشاء على الموقدِ: حريرة الذرة للزوج، وطبق يسمى "أفضوز" يعد أساساً من دقيق الذرة واللحم والخضراوات الطازجة، شبيه بأكلة "الرفيسة" في مناطق أخرى بالمغرب، يجتمعون عليه على طاولة العشاء. تلزم الأولاد غرفتهم وكتبهم، تريدهم متعلمين على قدر من الوعي والتحصيل، تحرص أشد حرص على أن يوفقوا بين اللعب والدراسة، وقت الدراسة لا جدال فيه، قبل العشاء يستظهرون عليها بعضاً مما حفظوا أو درسوا ذلك المساء، قد تكون مبتدئة في القراءة والكتابة، لكنها نبيهة تستطيع تمييز ما يدرسه الأبناء وكشف الحيل الطريفة التي يحاولون التملص بها من واجباتهم المنزلية.
صوت مذيع أخبار المساء في القناة الوطنية، يخطب عن الزيارة الملكية لمدينة من المدن. يسألها الزوج عن أحوالها وأحوال الأولاد، تدخل معه في نقاش مطول، نقاش يحدث في بعض الأحيان أن يختلفا فيه على أمر تعلو وتخفت معه النبرات، يناقشان أمور البيت والأولاد وتطور محصول السنة والماشية، ومستجدات الحي والقبيلة وبعض أحوال الناس الذين يعرفونهم، وأبرز الحوادث التي شهدتها المنطقة ذلك اليوم، فالأخبار تنتشر هنا كالنار في الهشيم بحكم تداخل العائلات وتشابك العلاقات الأسرية بين الناس، يتخذان القرارات سوية في أغلب الأوقات، ويحدث أن يستأسد به الزوج أحياناً. يجتمع الكل على طاولة العشاء، يتفقد الأب أبناءه وأمور دراستهم وحالهم مع الصلاة، منبهاً عن مغيبهم المتكرر عن المسجد، ويمازحهم عن من الأقوى والأذكى فيهم.
هي سيدة بيتها، قد تشتكي تارة من تراكم المشاغل عليها، لكنها لا تجد بُدًّا أو إشكالاً في أن تفعل كل هذا كل ذي مرة، قد تعرف بعض فترات اليأس والملل، لكنها لا تعرف معنى للكسل والخمول، تكفيها لذة نجاح أحد الأبناء بميزة مشرفة، أو دعوة صادقة من سيدة صالحة.
تراقب أدق التفاصيل ولا يصيبها الوهن في أن تقصر ولو لمرة من أجل أهلها وذويها، قد يحدث أن يتنكروا لجميلها، لكنها تعاملهم بنفس المعاملة، فطبعها هكذا تُعز لديها نفسها، هكذا ترسخت فيها روح العمل والمثابرة، روح الصبر والإقدام، روح العفو والصفح، عزاؤها أن يكبر ويعلو شأن أبنائها وشأن العائلة والقبيلة. قبل الخلود إلى النوم، خاطبها زوجها: أتعلمين، لولا عفوك وسماحتك، مهما فعلت لن أوفيك حقك!
القصة مستمدة من أحداث واقعية.
" انتهت"
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.