من المألوف أن تقوم حياة الزوجين على حبٍّ متبادل يرتقي لمودة ورحمة تُبنى عليها دعائم حياتهما، ولكن أن تكون حياتهما قصة عشق يتبادلان بها الهيام، ويصف كل منهما للآخر ذلك بشِعر عذب يأتي بنسق بديع يعبر عن ما يختلج في داخله، فإن ذلك من نوادر الزمان الذي قَلّ أن تجده بين الأزواج، ومن هذه القصص التي خلدها التاريخ وتعجب منها كثير من المؤرخين قصة "المعتمد بن عباد" صاحب إشبيلية وزوجته "اعتماد الرُميكية".
لم تذكر المصادر التاريخية أيًّا من تفاصيل حياة اعتماد قبل زواجها بالمعتمد، ولكنها ذكرت أن اعتماد كانت شاعرة أندلسية تقيم في إشبيلية في عهد المعتمد بن عباد، وكانت جارية لـ "رُميك بن حجاج" وإليه نسبت، ثم تزوجت المعتمد بن عباد أمير إشبيلية، زمن ملوك الطوائف في الأندلس، وبعد ذلك رافقته في ترحاله ونفيه في مدينة أغمات في المغرب، حتى وفاتهما هناك، وعُرِفَت بمهارتها في قرض الشعر، وظرافتها وسرعة بديهتها وحسن جوابها، والأهم من ذلك كله قدرتها على التمكن من قلب زوجها.
بدأت قصتهما في يومٍ من أيام السعد، بينما كان المعتمد يتنزَّه مع صديقه الشاعر ابن عمار ووزيره لاحقاً في أحد متنزهات إشبيلية، فقال له "صنع الريح من ماء الزَّرد" (وهنا كان المعتمد يقصد أن يكمل رفيقه بيت الشعر)، إلا إنَّ بديهة ابن عمار لم تسعفه في تلك اللحظة، فتأمل طويلاً وسكت ولم يكمل، وكانت بالقرب منهما امرأة تغسل الملابس فنظرت إليهما وقالت "أيُّ درعٍ لقتال لو جمد"، فتعجَّب المعتمد من موهبتها بالشعر وفتن بجمالها، فسأل عنها، فقيل له إنها جارية لـ رُميك بن حجاج واسمها اعتماد، فذهب إلى صاحبها واشتراها منه وتزوجها، ودخلت قصر الإمارة وصارت تُسمى بالسيدة الكُبرى، وذكر بعض المؤرخين أن لقب المعتمد قبل زواجه باعتماد كان "المُؤَيَّد بالله"، فلما تزوجها صار اسمه المعتمد من حبه لها وتيمنا باسمها.
ويقول ابن سعيد في كلام نقله المقري في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب": "وكان المعتمد كثيراً ما يأنس بها، ويستظرف نوادرها، ولم تكن لها معرفة بالغناء، وإنما كانت مليحة الوجه، حسنة الحديث، حلوة النادر، كثيرة الفكاهة، ولها في كل ذلك نوادر محكية".
ومن ذلك أن المعتمد وكان من أهل الشعر تأمل يوماً في اسم حبيبة قلبه اعتماد، فنظم أبياتاً تحوي أوائلها حروف اسمها فقال:
ع. عليك السلام بقدر الشجون .. ودمع الشؤون وقدر السهاد
ت. تملكتِ مني صعب المـرامي .. وصادفتِ وُدِّي سهل القيـــــاد
م. مرادي لقياك في كل حيــن .. فيا ليت أنــــي أُعطَى مـــرادي
أ. أقيمي على العــهد ما بيــــننا .. ولا تستحيلي لطــــول البعـــاد
د. دسست اسمك الحلو في طي شعري .. وألفت حبــــًّا حروف اعتمـــاد
ونظر إليها المعتمد يوماً فقال:
فما حلّ خِلٌ من فؤاد خليله
محل "اعتمادٍ" من فؤاد محمــــد
ولكنها الأقدار تُردي بلا ظُبى
وتُصمي بلا قتل وترمي بلا يد
وفي وصف حبه لها قال مرة:
يا ظبية سلبت فؤاد محمد .. أَوَلم يروعك الهزبر الباسل
من شك أني هائم بك مغرم .. فعلى هواك له علي دلائل
وكان المعتمد يغدق عليها الأموال لإرضاء رغباتها وإسعادها، ومن قصص تبذيره لأجل إرضائها.. يوم أرادت فيه أن تسير على الطين، فأمر المعتمد بأن يُسحَق لها الطيب وتُغَطَّى به كل ساحة القصر، ويُصَبُّ ماء الورد عليهما، ثم عُجِنَ ذلك حتى أصبح كالطين، فلعبت فيه اعتماد مع بناتها وجواريها، وفي يومٍ بعد هذه الحادثة اختلفت معه وغضبت، وكعادة بعض النساء قالت له: "والله ما رأيتُ منك خيراً قط!"، فقال لها: "ولا يوم الطين!"، فخجلت منه واعتذرت.
ومما يُروَى كذلك أنها رأت يوماً الثلج يهطل شتاءً، وكان ذلك نادر الحدوث في جنوب الأندلس، فبكت وطلبت منه أن يأخذها لبلد ترى فيه الثلوج، فأمر بزرع أشجار اللوز على جبال قرطبة، لتظهر عند طلوع أزهارها كأنها مُغطَّاة بالثلوج.
وقد ارتقت اعتماد في قصر الإمارة مرتبة رفيعة فقد قيل إن المعتمد كان يستشيرها في كثير من أموره، وهذا مما أنكره عليه كثيرون فأصبحت في هذه المكانة منافسة لوزيره ابن عمار، فتولدت بينهما دوافع الغيرة وأراد كل طرف أن يوقع بالطرف الآخر، فعمد الوزير ابن عمار إلى نظم أبيات من الشعر هاجياً فيها الرميكية، فهجاها قائلاً:
تخيرتها من بنـات الهجـان
رمكيـة ما تسـاوى عقـالا
فجاءت بكل قصيـر العـذار
لئيم النجارين عمـًّا وخـالا
قصـار القـدود ولكـنهـم
أقامـوا عليها قروناً طـوالا
سأهتك عرضك شيئاً فشيئـاً
وأكشف سترك حـالاً فحـالا
وكان دافعه من ذلك أن يذكرها بأصلها ويغري بها زوجها، ولكن ذلك كان سبباً في بلاء وقع به لاحقاً، فقد أمر المعتمد بسجنه، وحاول ابن عمار استرضاء المعتمد من خلال شعر أرسله له من سجنه، ولكن ذلك لم يُرقق قلب الأمير عليه، وانتهى الأمر بمقتل ابن عمار، وما هذه الحادثة إلا دليل قاطع على مدى حب الخليفة لزوجته، ذلك الحب الذي دفع به لمقتل صاحبه رغم تدخل المقربين من ابن عمار لوقف الحكم ولكنهم لم يفلحوا لشدة غضب المعتمد بن عباد عليه، وكانت هذه من الحوادث التي أنكرها عليه الكثيرون، إذ كيف له أن يقتل صاحبه انتقاماً لزوجته، وكان بإمكانه أن يعفو عنه لمكانته عنده أو يخفف عنه هذا الحكم الجائر لأقل منه.
وقد أثارت هذه التصرفات وغيرها والبذخ وتبذير أموال المسلمين في سبيل إرضاء رغبات زوجته سخط وجهاء وعلماء إشبيلية، وأصبحوا يرون أن اعتماد تجر المعتمد إلى الاستهتار وحياة اللهو، وأنكروا عليه هذا الأمر -وحُق لهم ذلك- وأشار لذلك كثير من المؤرخين، ويُروى أنه عندما أفتى فقهاء المسلمين يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين بجواز ضمِّه إمارات ملوك الطوائف إليه بالقوة، كان من ضمن ما أشاروا إليه في فتاواهم تبذير الرميكية وجر زوجها إلى حياة الترف واللهو.
ولما قام المرابطون بتوحيد الأندلس تحت راية دولتهم، دخلوا إشبيلية وقاموا بنفي المعتمد بن عباد إلى أغمات في المغرب، فرحلت معه اعتماد وبناته إلى هنالك حيث عاشت أربع سنوات من خشونة العيش وشظف الحياة.
وقد قالت للمعتمد ذات يوم
يا سيدي لقد هنا هنا، فقال:
قالت لقد هنا هنا مولاي أين جاهنا
قلت لها إلهنا صيرنا إلى هنا
وحكى أنها قالت له وقد مرض: يا سيدي، ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك، فلم يكن للمعتمد بعد الرياسة والإمارة في منفاه من مؤنس سوى أولاده وأمهم اعتماد التي ظلت تؤنس وحدته بسؤالها حيناً ومواساتها أحياناً أخرى، كما يقول ابن الآبار.
ثم إن اعتماد لم تحتمل حياة الشقاء والبؤس بعد النعيم والرفاهية، وأصابها غم شديد في منفى زوجها، فتوفيت بمدينة أغمات سنة 488 هجرية الموافق 1095م ولم يصبر المعتمد على فراقها، فمات بعدها بأربعة أشهر، وكان قبره بجانب قبرها في غرفة واحدة.
ورغم صواب كلام كثير من المؤرخين من أن اعتماد قد تسببت بطريقة أو بأخرى بهذه النهاية المؤلمة لها ولزوجها، إلا أن التاريخ خلد ذكرى قصة حب فريدة عاشتها مع زوجها، فلا يذكر المؤرخون العرب والإسبان سيرة المعتمد حتى تذكر معه اعتماد وما جرى بينهما من أحاديث عذبة وقصص تكاد تكون أقرب إلى الخيال.
كما أن أهل إشبيلية لم ينسوها، ففي مدينة إشبيلية يوجد تذكار لاعتماد الرميكية، كتب عليه: "اعتماد جارية وملكة، بجمالها وشِعرها وحب المعتمد لها صارت ملكة على إشبيلية".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.