حينما رحلت من هناك، كنتُ أعلم أنها المرة الأخيرة، نظرتُ خلفي لألقي نظرة الوداع، شعرت لحظتها أنّي فوق، أُحلق وأنظر من عُلوّ، أرى المشهد كاملًا من بعيد كأني مَلَكٌ أو إله، أرى كل شيء من هنا، أرى الأشياء كلها وأعرف الأسماء كما كان آدم يوم علّمه الله، سأرحل من هنا ولن أعود، أعلم هذا.
2
يتكرر المشهد في كل مرحلةٍ كأنما هي دائرةٌ بلا نهاية، بئرٌ سحيقةٌ بلا قرار.
كلمة "البئر" تُذكرني بيوسفَ كثيرًا، ذاك الطفل الذي ألقاه إخوته في غَيَابَةِ الجُب، أتساءل عن حاله، بماذا شعر؟ هل صرخ؟ بالتأكيد، نادى من الظلمات أن ابقوا، اسحبوني، أنهوا هذا الهزل السخيف ولنعد لدارنا، أو ولنلعب ونستبق مرة أخرى، إخوتي، هل تسمعونني؟ ما بالهم يضحكون! ألم يملّوا من اللعب؟ ابتعد صوت ضحكهم، زاد الهزل عن حده، يحاولون إرهابي قليلًا حتى إذا ما أخرجوني وأنا أرتعد ضحكوا مني، فليضحكوا كما يريدون، أريد أن أخرج فقط.
اختفي الصوت وانتهى الهزل، غاب آخر شعاعٍ للشمس، ما ثم إلا وجه الله وعواء ذئبٍ يشق الظلمات، أَتَرَكَهُ إخوته أيضًا؟ ذاك البائس الوحيد في الظلمات، مثلي، ليس له سوى العواء.
3
بعد الصراخ يأتي الإعياء، والإعياء جلّابٌ لليأس، واليأس أولى درجات الموت، والموت مرحلة لا أعلم كنهها، أنا خائفٌ وحيدٌ جائعٌ، صوت الذئب يعود فيؤنسني، كم لله من لطفٍ خفيّ، هل يعلم الذئب بوجودي؟ هل يناديني أن اثبت أنا معك، لستَ وحدك، هنا الله معنا، ثالثنا، وهذا يكفينا؟ هل يدرك؟ أهو -ذاك الصارخ في البرّية-
جنديٌ من جنود الله؟
هدأ العواء، فاستوحشتُ الجُب، البشر يحبون الأنس حتى وإن كان من عواء ذئب، حتى وإن كان من دبيب نمل، حتى وإن كان طيف وهم، الله موجودٌ دائمًا لأنه إن غاب هلكنا من الوَحشة.
لم أسمع صوتًا منذ أيامٍ سوى العواء، صار العواء مُضاعَفًا، شعرت بهذا لأني حفظت صوت أنيسي، هناك ذئبان، واحدٌ يعوي بصوتٍ كالرعد، وآخر بصوت كنسيم الريح، أظنهما ذكرٌ وأنثي.
تُري، ماذا يقولان؟
يقول أُحبك؟ فتتمنع بدلالٍ يسحر اللب ويطيش بالعقل، (فيشتاط) الشوق وترتعد الفرائس وينكوي القلب وتهيج أعاصير الروح فتفقد الكلمات قدرتها، فيبقى الصمت أكبر دليلٍ وتعبير؟ يا الله، يا من قذفت في روع الوحوش مشاعر كتلك، يا من هذّبت ذاك المفترس بهذه الفاتنة التي تعوي في دلال، يا من جعلت من الدلال علامة، ومن العلامة بداية، ومن البداية (سرًّا سرمديًّا) يضيء النفوس، أخرجني، يا من لم تنسَ أني هنا، كن معي.
4
كم لله من لطفٍ خفي!
5
وسط التضرع والموقف المُهاب، وسكراتِ الوَسَن والغياب، وعواء الذئاب ووله الأحباب، والجُبِ العميق الذي لا أرى منه سوى السحاب، حضرت الألطاف بعد طول غياب.
سمعت في البداية صوتًا كدت أنساه، صوت بشرٍ يصيحون، تململت في مجلسي وحسبت أن أوان الجنون قد آن، اقترب الصوت وازداد يقيني من الجنون، اقترب الصوت حتى صاح أحدهم يا بشرى هذا غلام، ضربت جوانب البئر بيديّ، صرخت، أنا هنا، كنت أنازع ظني أني أحلم أو أنه سرابٌ من أصوات، ظللت أنازع حتى أُلقي إليّ بحبلٍ وقالوا اخرج يا غلام، لم أستطع وخارت قواي، ظللت أبكي حتى نزل أحد الرجال وأمسك بي، تعلقت به وبالبكاء، ظل الرجال يسحبوننا، رأيت المشهد ثانية من علو وسمعت صوتًا يشق السماء يصحبه رعدٌ هز أركان الكون، اصعد، اعْلُ، ارتقِ، مكانك ليس في الجبُ، مكانك في الأعالي، وختم الصوت كلامه بأن كم لله من لطفٍ خفي.
6
أنازع موجات التأمل وأعود لذاتي، ما الجُبُّ إلا فكرةٌ، كلنا في جبٍّ عميقٍ بلا قرار، كلنا هنا ننازع، نطلب الأنس، نلتمس الألطاف، كلنا ضِعافٌ كيوسف يوم ألقاه إخوته، كلنا يمتلك جُرحًا غائرًا مثله، كلنا يناجي السماء، كلنا كالذئبان ننتظر لحظة كتلك ونخافها، كلنا يوسف، وما الحياة إلا جبٌّ بلا قرار، فهل يأتي إلينا بعض السيّارة؟
7
وما بالُ تلك التي غادرتها ولم تغادرني؟ ألا تموت؟ أإلهٌ مع الله؟
ما بالها لا تنطفئ شعلتها كنار الفرس، ما بالي صبئت وأعبد النار؟ ما بال كل الأمور تتحد لتعود بي إلى هناك، إلى أعماق روحي، حيث جذوةٍ مشتعلةٍ لا تبرح تكويني في كل حين، وأثر الاكتواء دائمٌ لا يزول، مؤلمٌ قاتلٌ مدمرٌ مزلزلٌ ليس إلى انتهاءٍ يؤول؟ ها قد مرت أعوامٌ نسيت عددها، وهي قد نسيت وها أنا أمارس الحياة بلا حياة، لعن الله النار وعُبّاد النار المشركين.
8
أعود ليوسف، حين ذهب إلى قصر العزيز ورآها لأول مرة، زليخة النارية الفاتنة، كل بنات حواء خُلقن من نار، وإلا فما تفسير اكتوائنا منهنّ؟
النظرة الأولى فضّاحة، رآها في عينيها وشعر بها في رَوْعِهِ، النظرة الأولى سحّابة، شعر بفقدان الإرادة والتسليم، النظرة الأولى هدّامة، شعر بخدرٍ في جسده كأنه جدارٌ يريد أن ينقض، النظرة الأولى ذبّاحة، شعر بالدماءِ منه تسيل، النظرة الأولى هي النهاية، والبداية.
9
وحين انقضاض الوله على الألباب، يغيب كل شيء، حتى ذات الغياب.
ما ثم إلا وجه الله، ما ثم ذاتٌ سواه، وما زليخة إلا محض تجلٍّ من التجليات.
10
كان في غرفته وحيدًا ينازع ما آل إليه من فناء، سمع الصوت القادم أي يا يوسف فقال هلمي وافتحي الباب، وياليته ما انفتح.
دخلت عليه فشهق من الوهج، وشهقت.
انهدم، وانهدمت.
سال، وسالت.
ضاع، وضاعت.
اقترب، واقتربت.
هم بها، وهمت.
إلى أن رأى برهان ربه.
11
عدت من سكرات الخيال الجامح، ما بالي اليوم وما بال الذاكرة تتحد مع خيالي ليعبثا بي؟
ما الهيام إلا هَمٌّ بالموت، وما النظرة الأولى إلا نهايةٌ للوعي وبداية للسُكر، وما الاقتراب إلا إيذانٌ بالضياع، وما الانهدام إلا إنذارٌ بقرب السيل، وما السيل إلا إذعانٌ بالجموح، وما برهان الله إلا سرٌّ لا ندريه.
12
يوسف مرة أخرى، ها هو يخرج من سجن العزيز في خيلاء، اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليم، يضع الصواع في رحل أخيه، يَرُدُّ أخاه إليه، يَرُدُّ لإخوته بعض ما فعلوا، يعودون مرة أخرى، لم يعرفوه وهو بهم عليم، ها هم يدركون، ها هو من ألقوه في غَيَابَةِ الجب يجلس على العرش، ها هم يخروا ساجدين وهو ينظر للسماء ثم إلى الأرض في خشوع، ارفعوا رؤوسكم، لا تثريب عليكم اليوم.
لا تثريب عليهم؟ ما بالك؟ لقد ألقوك وتركوك لتموت! لا تثريب عليكم اليوم.
هل جننت؟
لا تثريب عليكم اليوم.
مُرْ بقطع الرقاب، وصلب الأجساد، وبالتعذيب والذل قبل الممات!
لا تثريب عليكم اليوم.
يا الله ما هذا الجنون؟!
13
ألا تدري ما الغاية؟
لا يا يوسف لا أدري
ولا أنا، ولكني أعلم أن لله ألطافًا خفية قد أصابت إخوتي، وما لي أن أردها.
كفى! فلتتركني يا يوسف وشأني، لا أقدر على ما قدرت عليه، تخترق أذني ذات الجملة المهيبة
لا تثري.
كفي!
14
مازال الجُب عميقًا، وما زالتْ الجذوة تكويني كل حين، وما زلتُ لا أقدر على قول ما قال يوسف، وما زالت أمورٌ كثيرة تحاصرني وتدميني، كأنها ذات جُب يوسف العميق، وما زلت أنا في سجنه، لا مثله، ولا مثل صاحبه الذي يسقي ربه خمرًا، بل كصاحبه الذي أكلت الطير من رأسه.
قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.