على مدار الشهور الماضية، صادر حرس الحدود الفنلنديون العديد من السيارات البالية القادمة من العهد السوفييتي وعلى متنها عشرات اللاجئين، لتتحول ساحة الانتظار بين الأراضي الروسية المتجمدة وفنلندا إلى مساحة من الخردة، وهو ما اضطر السلطات الفنلندية إلى تخصيص مساحة منفصلة للسيارات الروسية المُصادَرة تجنباً للفوضى.
لكن مواكب السيارت التي ظهرت بشكل غامض توقفت فجأة في الشهر الماضي كما بدأت. وأبدى ماتي دافييتلا رئيس النقطة الحدودية الفنلندية القريبة من مدينة سالا تعجّبه قائلاً "لا نعرف ما الذي يجري، لقد توقفت السيارات عن العبور فجأة، هذا كل ما نعرفه"، حسب ما نقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الأحد 3 أبريل/ نيسان 2016.
مقارنة بالطريق الذي سلكه مئات الآلاف من اللاجئين إلى أوروبا عبر تركيا واليونان، فإن عدد اللاجئين الذين سلكوا الطريق القطبي الشمالي عبر روسيا مروراً بفنلندا والنرويج يعد قليلاً.
لكن التوقف المفاجئ لحركة المرور أشعل قلقاً جيوسياسياً، بالإضافة إلى أزمة اللاجئين التي تمزق أواصر الاتحاد الأوروبي.
لماذا الطريق القطبي الآن؟
التغيرات المفاجئة في الطريق القطبي الشمالي شكلت جرس إنذار دق في العاصمة الفنلندية هلسنكي ومنها إلى بروكسل حيث اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي لمناقشة أزمة اللاجئين وتداعياتها.
لكن شكوك الاتحاد الأوروبي تتزايد حول الدور الروسي، واستغلال روسيا لأزمة اللاجئين كورقة ضغط على أوروبا أو ربما لكسر الإجماع الأوروبي حول العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا نتيجة لأفعالها في أوكرانيا. ففي حالة تراجع دولة واحدة من أعضاء الاتحاد الأوروبي، ستنهار العقوبات المفروضة على روسيا.
"لسوء الحظ، يبدو أنه استعراض سياسي من قبل روسيا" حسبما قال الكا كانيرفا، وزير الخارجية الفنلندي السابق ورئيس لجنة الدفاع في البرلمان الحالي، وتابع "إنهم ماهرون في إرسال الإشارات، يريدون تحذير فنلندا من مغبة قراراتها المتعلقة بالتدريبات العسكرية أو شراكتنا مع حلف الناتو أو عقوبات الاتحاد الأوروبي".
المفتاح في يد الأمن الروسي؟
وعلى عكس تدفق اللاجئين عبر اليونان، والذي يتحدد بناء على حالة الطقس في بحر إيجة، فإن تدفقهم عبر فنلندا يتحدد بناء على أداء جهاز الأمن لروسيا الاتحادية، خليفة المخابرات الروسية، وقيامه بفتح الطرق أو إغلاقها في المنطقة الحدودية المكتظة بالقواعد العسكرية.
في بداية هذا العام، استطاع 800 لاجئ المرور من روسيا إلى فنلندا عبر النقطة الحدودية غرب كاندالاكشا في لابلاند الفنلندية، مقارنة بعدم مرور أحد في الفترة نفسها من العام الماضي.
استطاع الأفغاني سيد موسى خان، البالغ من العمر 31 عاماً الذي عمل لحساب شركة أمنية أميركية في كابول، عبور الحدود الفنلندية في 28 فبراير/ شباط ٢٠١٦ وهو اليوم الذي سبق توقف حركة المرور، بعد البيان الذي وجهه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقادة أجهزة الأمن الروسية، والذي جاء فيه ضرورة "تشديد رصد اللاجئين وتدفقهم".
أما السيد خان فقد استطاع عبور الحدود مع عائلته بالإضافة إلى مجموعة أخرى من اللاجئين، في قافلة من السيارات القديمة مع مرافقين روسيين ليتمكنوا من عبور ثلاثة نقاط تفتيش قبل الحدود الفنلندية.
وأبدى السيد خان عدم معرفته بفنلندا من قبل، وحتى بعد عامين قضاهما في روسيا وروسيا البيضاء، مازال غير متأكد إلى أين يذهب، لكنه يعرف أنه يريد الوصول بعائلته لأوروبا لذا دفع 6 آلاف دولار لشخص ما في موسكو وهو الذي رتب حصول أفراد الأسرة على قرار المغادرة من قبل السلطات الروسية.
كما أضاف السيد خان بعد وصوله لفنلندا، وتقديمه لطلب اللجوء "سألني إلى أين أريد الذهاب، ثم أخبرني لا مشكلة، ستذهب عبر فنلندا، الجميع يذهب هناك الآن".
أما جورما فيوريو مدير إدارة الهجرة الفنلندية فقد أبدى اندهاشه من الظاهرة الجديدة لوصول اللاجئين عبر روسيا، لكنه أضاف أن تورط الدولة الروسية " ليس عليه دليل، بل مجرد تكهنات".
بدأت حركة المرور عبر طريق القطب الشمالي في أواخر الصيف الماضي، حين قطع 5 آلاف لاجئ الحدود الشمالية لروسيا مع النرويج على دراجات هوائية، عبر الحدود التي خضعت لإجراءات مشددة قبل ذلك، لكن التدفق المفاجئ توقف فجأة في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠١٥ حين شددت السلطات الروسية الرقابة الحدودية بالتزامن مع وصول المسؤولين النرويجيين لموسكو للتوصل لاتفاق يوقف هذا التدفق.
تم تحويل طريق اللاجئين جنوباً نحو الحدود الروسية الفنلندية بعدما توقف الروس عن منع اللاجئين الذين لا يملكون تأشيرات من الاتجاه للمعبر الحدودي الفنلندي.
وهو ما تبعه منع فنلندا الدراجات الهوائية من الاقتراب من شريطها الحدودي مع روسيا والبالغ 830 ميلاً، والسماح بعبور السيارات فقط، وهو ما أوقف نمو سوق ازدهر مؤخراً للدراجات في شمال روسيا، لكنه خلق سوقاً آخر للسيارات القديمة التي تتمكن من العبور إلى فنلندا.
كما قال السيد فيوريو أن نظيره الروسي قد أبلغه بوجود ما يقرب من 11 مليون أجنبي في الأراضي الروسية، ممثلين لاجئين محتملين، لكنه شكك في سماح روسيا بعبورهم عبر المناطق الحدودية الحساسة، وأضاف أن عصابات المافيا وليست السلطات هي المسؤولة عن وتيرة واتجاه الهجرة عبر روسيا.
وأضاف أن التوقف المفاجئ لحركة المرور الحدودية لم يكن نتاج أي اتفاق بين المسؤولين الروس ونظرائهم الفنلنديين، "الاتفاق الوحيد بيننا هو الحفاظ على علاقات مشتركة جيدة" وعبر عن دهشته إزاء هذا التوقف المفاجئ لحركة المرور.
لكن إليكا كانيرفا رئيس لجنة الدفاع البرلمانية، يرى أن هذا هو هدف روسيا بالتحديد، إبقاء فنلندا في حالة من الترقب تؤثر على قراراتها المشتركة مع حلف الناتو أو تجعلها أكثر حذراً في أي قرار قد يغضب موسكو، وأشار إلى براعة روسيا في استخدام الأدوات غير العسكرية لتحقيق أهدافها مثلما فعلت في أوكرانيا، وأضاف أن اللاجئين "جزء من استراتيجية واسعة النطاق، فهم يريدون منا تحقيق مصالحهم".
شماتة الروس
مثّل الصراع في سوريا وأزمة اللاجئين التي نتجت عنه فرصة ذهبية لموسكو لفرض وجودها كقوة لا تستطيع أوروبا الاستغناء عنها ناهيك عن كسب عدائها.
فخلال زيارة الرئيس الفنلندي لروسيا الشهر الماضي، وبخه الرئيس الروسي بسبب الأضرار التي لحقت بروسيا وفنلندا جراء العقوبات، كما اتفقا على منع عبور المسافرين عدا مواطني روسيا وروسيا البيضاء عبر المعبرين الحدوديين في منطقة القطب الشمالي لمدة ستة أشهر.
وبينما نفى المسؤولون الروس ضلوعهم في توجيه اللاجئين لأوروبا، إلا أن شماتة الكرملين في الأزمة الأوروبية بدت واضحة للعيان، خاصة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نتيجة للدور المهيمن الذي قامت به في فرض العقوبات وغيرها من المسائل.
ويقوم التليفزيون الروسي الحكومي بتقديم جرعة يومية من قصص الرعب المتعلقة باللاجئين، والتي احتوت على قصة زائفة عن قيام اللاجئين باغتصاب فتاة روسية في الثالثة عشرة من عمرها. كما استضاف بوتين اثنين من أشد نقاد ميركل، الرئيس المجري فيكتور اوربان، ورئيس مجلس الدولة لولاية بافاريا الألمانية هورست سيهوفر.
أما نهج العمليات العسكرية الروسية في سوريا، والذي استهدف أهدافاً زاد من حدة هروب السوريين، فقد أضاف شكوكاً غربية بشأن محاولة موسكو تأجيج أزمة اللاجئين في أوروبا لأغراض سياسية.
ففي حديثه أمام لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ بواشنطن، اتهم الفريق فيليب م. بريدلوف القائد الأميركي لحلف الناتو روسيا "بالاستخدام المتعمد للاجئين كسلاح لتحطيم الكيان الأوروبي وتثبيط عزيمته".
بينما رفض المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية ادعاءات القائد الأمريكي واصفاً إياها بالسخافة، مشيراً إلى أن أزمة اللاجئين ظهرت قبل التدخل الروسي العسكري في سوريا.
ماهي علاقة المسؤولين الروس بالمهربين؟
أما الوحيدون الذين لا يحتاجون إقناعهم بالتلاعب الروسي فهم اللاجئون أنفسهم. ففي المقابلات التي أجريت مع عدد من اللاجئين القادمين من وسط وغرب أفريقيا، قالوا بأنهم دفعوا آلاف الدولارات "لمهربين" وعدوا بحملهم إلى فنلندا بالاعتماد على علاقاتهم الوثيقة مع المسؤولين الروس.
وبحسب اللاجئين فقد بدا الأمر منظماً، بحيث لم يُسمح لأكثر من 30 شخصاً بالعبور إلى فنلندا يومياً، بالإضافة إلى الترتيبات المسبقة المتعلقة بالعابرين.
وقال هونوريه باسوبت الذي قدم إلى روسيا من غرب أفريقيا للدراسة "جميعهم في حلقة واحدة: المسؤولون والسائقون وقاطنو الفنادق، هذا هو عملهم"، وقال أنه مثل الجميع في كاندالاكشا، تم إصدار أوامر إبعادهم وطُلِب منهم الرحيل لأوروبا سريعاً، وأضاف "الآن يخبروننا أن الحدود قد أُغلِقَت، هذه لعبة قبيحة".
– هذه المادة مترجمة بتصرف عن صحيفة New York Times الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، يرجى الضغط هنا.