تبدو مشاعر مثل الغضب والظلم والرغبة في تغيير الواقع بكل ملامحه مفهومة في بلادنا، وتزداد منطقية عندما تصدر عن شباب يشعرون أنهم يعيشون واقعاً مريراً، ويرقبون مستقبلاً بلا أفق، في ظل توحش وتغول سلطة لم تأتِ بإرادتها، ولا محققة أقل طموحاتها.
ما سبق مفهوم، ولكن تزايد الحوادث التي تجعل من الغرب مسرحاً لحوادث قتل، أو هجمات تطال المدنيين، حتى وإن أهان بعضهم مقدساتنا، ثم ربط ذلك كله بالإسلام وتعاليمه، كل ذلك يبدو أمرا يحتاج إلى مراجعة لمعرفة وجه الحق فيه بعيداً عن الانفعال الذي أصبح سمة التعامل مع تلك القضايا.
وقد دفعتني تلك الحوادث المتواترة -وآخرها هجمات بروكسل- إلى التنقيب في تراث علمائنا بحثاً عن إجابات لأسئلة تمثل "الكتالوج الشرعي" لما يجب أن يكون عليه حال المسلم مع غير المسلمين وفي بلادهم، وفي حالات إحسانهم إليه، أو استفزازهم لمشاعره.
ولست معنيًّا هنا برصد ظاهرة تزايد الاستفزازات ضد المسلمين وأسبابها، بل أنا معني ببيان الحكم والموقف الشرعي، في كيفية الرد على مثل تلك الأحداث، وإيضاح موقف الإسلام من العنف بشكل عام كوسيلة للتعبير عن الغضب ولا سيما ضد الإساءة للمقدسات الإسلامية، وهل يصلح في ديننا؟ وهل يستند إلى أساس ودليل شرعي، وما التوجيه الصحيح لهذه النصوص الدينية؟
وقادتني تلك الرحلة إلى دراسة موقف الإسلام من الرسالات السابقة ورسلها وأنبيائها، هل يحتفظ بالود والتقدير لهم، أم أنه يتنكر لهم ويعاديهم؟ وما أخلاقيات المسلم التي عليه أن يتحلى بها في بلاد غير المسلمين، هل هي الوفاء أم الغدر والخيانة؟ وما الموقف من حرمة دماء وأموال وأعراض غير المسلمين في بلادهم؟ فالمعلوم أن الإسلام حرّم دم المسلم وعرضه وماله، فهل يستوي معه غير المسلم في الحرمة، سواء في بلاد المسلمين أو في بلاد الغرب؟
وما موقف الإسلام من تجاوزات بعض المسلمين في بلاد غير المسلمين، من حيث استحلال الدماء والأموال؟
وقد أسهبتُ في بيان ذلك كله، من نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ثم أسهبت في النقل عن المذاهب الفقهية بشتى مدارسها المختلفة، نظراً لاختلاف المرجعيات لدى من يتبنون مثل هذه الممارسات.
ولا شك أن من يقوم بهذه الممارسات يستند إلى أدلة ونصوص ونقول عن الفقهاء، تجعله يتوهم استباحة دماء وأموال هؤلاء الناس، فكان لزاماً عليّ أن أذكر هذه الأدلة والنقول، ومناقشتها مناقشة علمية منهجية، وتوضيحها.
ثم عرجت على مبدأ مهم في الفتوى، وتناول الأمور الفقهية في أمور وحياة الإنسان، سواء في الداخل الإسلامي أو في خارج وطنه المسلم، وهو مبدأ رعاية مآلات ونتائج الأفعال، فقد يفهم الإنسان أن أمراً ما مباحٌ شرعاً، لكنه يغفل عن نتائج هذا الفعل التي تحوله إلى محرم.
ثم ختمتُ ببيان كيفية التعامل مع مثل هذه الإساءات، والطريقة المثلى في ذلك حسب ما نفهم من نصوص الشرع الحنيف، وتطبيق النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام.
فنقول وبالله التوفيق، مبينين موقف الإسلام من القضية برمتها، كما أسلفت وأوضحت من عناصر..
موقف الإسلام من الاختلاف الديني
الإسلام دين يؤمن أتباعه بأنه دين الحق، الذي يجب عليهم اتباعه، يقول تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران: 19، وأن ابتغاء أي دين آخر يحبط عمل الإنسان، ولا يقبل منه، يقول تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) آل عمران: 85.
ورغم هذا الاعتقاد الجازم بأن الإسلام هو دين الحق الذين يؤمن به، ويلتزم بتعاليمه، إلا أنه ينظر إلى الأديان الأخرى وأتباعها نظرة تقوم على أحقية الآخرين في الاختلاف الديني، فلكل إنسان اعتقاد ما شاء، لأن للإسلام فلسفته ورؤيته في نظرته للأديان السماوية وغير السماوية، تقوم على أسس مهمة وواضحة تجاه الإنسان ومعتقده الديني، وهي نظرة تقوم على هذه الأسس:
الاختلاف في الدين أمر قدري:
لقد خلق الله الخلق وترك لهم حرية الاختيار، في الإيمان بالله، أو الكفر به، فقال تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف: 29، ومن المستحيل أن يحصل الإنسان على المجتمع الذي يتميز بالنقاء العقدي، أو العقيدة الواحدة التي تنتظم مجتمعاً واحداً، فقد فطر الله الإنسان على الاختيار، وحرية الاختيار (وهديناه النجدين) البلد: 10، أي طريق الخير والشر.
ويقول تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) الإنسان: 3. قال الإمام الطبري: (ننظر أيّ شيء يصنع، أيّ الطريقين يسلك، وأيّ الأمرين يأخذ، قال: وهذا الاختبار). ويقول الإمام الزمخشري: (أي: مكَّنّاه وأقدرناه في حالتيه جميعاً. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع: كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أى: عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا).
وبموجب هذا الاختيار الحر، من خلال خلق الله للإنسان، وحكمته بأن هذا المخلوق ليس مجبوراً على الإيمان أو الكفر، فمعنى ذلك أن وجود أديان متعددة، وأتباع لها، يختلف كل منهم عن الآخر في معتقده، وفي إيمانه بالله، أن يكون هذا الاختلاف الديني قدراً محتوماً، قدره الله على هذه الحياة، ومن المستحيل أن يستطيع إنسان أن يلغي ما أراد الله، وفي ذلك يقول الله تعالى عن حكمة خلق الناس مختلفين دينيًّا: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود: 119،118.
يقول الإمام الزمخشري: (يعنى لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة، أي: ملة واحدة، وهي ملة الإسلام، كقوله: (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) وهذا الكلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يضطرهم إلى الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق، وبعضهم الباطل، فاختلفوا، فلذلك).
وقال الإمام ابن جزي: (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يعني في الأديان والملل والمذاهب، (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قيل: الإشارة إلى الاختلاف، وقيل: إلى الرحمة، وقيل إليهما). أي أن الله خلقهم للاختلاف، وتلك حكمة خلقه للإنسان.
وبيّن الإسلام مبدأً مهمًّا وهو: أن هذه الحكمة من خلق الناس لهم كامل الاختيار دينيًّا، وأن كل مؤمن بالله ليس مطالباً بإكراه من لم يؤمن كي يكون مؤمناً، فإن ذلك ينافي الحرية التي منحها الله للناس، لأن مشيئة الله وإرادته اقتضت أن يخلقهم غير مكرهين، يختار كل منهم ما يقتنع به، وليس مقبولاً من أحد أن يكرههم ولو من باب حب الخير لهم، يقول تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس:99.
فالإسلام هنا يعطي الحرية الكاملة للإنسان في دنياه أن يختار كما يشاء، ولا يملك أحد أن يفرض عليه ديناً، أو رأياً، أو معتقداً، حتى لو كان من باب حب الخير له.
انظر: تفسير الطبري (24/92).
انظر: الكشاف للزمخشري (4/666).
انظر: الكشاف للزمخشري (2/438).
انظر: التسهيل لعوم التنزيل لابن جزي (1/380).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.