كيف تكتشف الإرهابي.. هذا السؤال فشلت عشرات الدراسات الغربية في الإجابة عليه؟
من المسلم به أن سجلات الأخوين وراء التفجيرات الانتحارية بمدينة بروكسل سجلات طويلة حافلة بالعنف والإجرام، ما وضعهما على قوائم الإرهاب العالمية. لكن العام الماضي وفي مدينة سان برناردينو بولاية كاليفورنيا ، لم يكن أحد المهاجمين سوى مفتش صحة في المقاطعة يعيش حياةً عادية شأنه شأن كل سكان الضواحي.
كما اعتقل أيضاً عشرات من الشبان والشابات من ذوي الجنسية الأميركية على مدار العام الماضي لتورطهم في محاولات لمساعدة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). إلا أن تنوع مشاربهم وخلفياتهم يجعل من الصعوبة بمكان إدراجهم تحت وصف واحد، حسب ما نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، الاثنين 28 مارس/ آذار 2016.
لماذا ينضمون لداعش ؟
من أكثر الأسئلة التي حيّرت الحكومات لأجيالٍ عديدة: ما الذي قد يدفع أحدهم نحو العُنف، وما الذي يمكن فعله لردعهم عن هذا المنحى المتطرف؟
أسئلة كهذه تصدرت سلم الأولويات الطارئة خاصة بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وتتالي الهجمات في أوروبا والولايات المُتحدة.
وعلى الرغم من رصد الحكومات ملايين الدولارات للبحث في هذا الموضوع، وبرغم تعهدات البيت الأبيض المعلنة لتقصي هذا الملف والوصول إلى نتائج فيه، فلا إجماع أبداً حول سبب جوهري يدفع المرء للانحراف نحو منعطف الإرهاب.
وبدوره، أقر مارك سيجمان -وهو عالم نفس ومستشار حكومي مخضرم- عندما كتب في مجلة Terrorism and Political Violence عام 2014 "بعد كل هذه الأموال المبذولة والضجة الإعلامية، ندرك مع كل حادث إرهابي جديد أننا بعيدون تماماً عن إجابة سؤالنا الأصلي عن ما الذي يقود الناس نحو العُنف السياسي. نطرح التساؤلات البالية ذاتها مراراً وتكراراً دون التوصل لأي إجابةٍ أكيدة."
تجاهل حكومي
ولكن عندما يتوصل الباحثون إلى إجابات محتملة تعمد الحكومة في أغلب الأحيان إلى استبعاد تلك الإجابات والنتائج. فعلى سبيل المثال، وبعد وقت ليس بطويل عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، اختبر آلان كروجر، أستاذ الاقتصاد بجامعة برينستون، الفرضية السائدة والقائلة بأن الفقر هو السبب الرئيسي في صنع الإرهابي. وبعد دراسة مستفيضة للأرقام والإحصاءات الاقتصادية والاستبيانات والمعلومات المتوفرة حول الانتحاريين ومجموعات الكراهية، خلص كروجر إلى عدم وجود أي رابط بين الضوائق الاقتصادية والإرهاب.
ولكن حتى بعد مرور أكثر من عقدٍ كامل، ما زال مسؤولو الشرطة وموظفو الجمعيات الممولة من الحكومة يرون في المشاكل المادية دافعاً ومؤشراً على التطرف.
عندما أعلن الرئيس أوباما في العام 2011 عن خطط لوقف الإرهاب المحلي الأميركي كانت تفاصيل الخطة عامةً غير واضحة المعالم، إلا أن البيت الأبيض قطع وعداً واضحاً إذ تعهد بأن تقدم الخطة إشارات تحذيرية لمساعدة للآباء وقادة المجتمع على كشف الإرهاب ودرئه في مهده.
حينها قال دنيس ماكدونو الذي كان نائباً لمستشار الأمن القومي عندئذٍ: "سيكون المجتمع هو من يرصد السلوك غير السوي." فذكر مثلاً التغيب عن المدرسة من بين مؤشرات الانتماء إلى إحدى العصابات، وقال: "قد يكون التغيب عن المدرسة أيضاً نذيراً مبكراً على العنف المتطرف."
ولكن السنوات التي أعقبت ذلك لم تحرز أي تقدم يذكر لتقليص عدد المدرجين على قائمة الإرهاب. بل على العكس، تشعبت وتضاربت نظريات هذا المجال الشائك من الأبحاث حتى صارت تقول إن أي شخصٍ عادي قد يُصبح إرهابياً مُحتملاً.
فبعض الدراسات تشير إلى أن الإرهابيين غالباً ما يكونون مُتعلمين أو اجتماعيين؛ فيما تقول أبحاث أخرى أن الانطوائيين غير المُتعلمين هم الخطر الذي يُخشى منه.
وحذرت دراسات كثيرة من مرحلة المراهقة ومن تصيّد الشباب النزق من ذوي روح المغامرة الذين "يحاولون جاهدين تحقيق الإحساس بذاتهم. "
تعميمات كهذه هي السبب الذي دفع مُناصري الحرية المدنية للتخوف من جهود الحكومة في تعيين المجرمين وتحديد من ينساق في طرق الإجرام.
الباحثون أيضاً مستاؤون ومحبطون من حكومتي بوش وأوباما نظراً لما أسموه تركيز هاتين الحكومتين على أبحاثٍ تختزل مؤشرات الإرهاب في قوائم مرجعية بسيطة حتى لو عرّض ذلك أناساً أبرياء لشبهات هم بريئون منها.
كما أوضح البروفيسور كلارك مكولي أستاذ علم النفس بجامعة برين ماور والذي طالما تعاون مع الحكومة في إجراء بحوث عن الإرهاب "يريدون الآن أن تكون لديهم القدرة على تحقيق شيء ما، كل من يعرض عليهم وسيلة أو أسلوباً ما، مثل اعتماد قائمة مرجعية أو ما شابه – حالياً هذا هو ما يشغلهم ويحوز انتباههم واهتمامهم.
وأضاف: إن ما يحركهم هو مقدار الضغط في الطلب، فجميع مسؤولي القوات المسلحة يتوقون للاضطلاع بمهمة وتحقيق شيء ما. وحتى لو تسببوا بالإضرار بأحدهم، فلن يردهم هذا عن عزمهم ."
أوروبا تواجه الأسئلة ذاتها
تواجه أوروبا أيضاً نفس الأسئلة دون أي إجابة واضحة، فعمدة بلدة فيلفوورده البلجيكية، هانز بونتي، حضر العام الماضي اجتماع قمة في البيت الأبيض حول التطرف، ووصف حينها الجهود المبذولة بأنها محاولة لوقف موجة هائلة من الشباب اليافع الغاضب الذي يغادر أوروبا للانضمام إلى داعش.
في بريطانيا تُشجع الحكومة الشعب وتطلب منه إبلاغ السلطات عن كل من تحوم حوله الشبهات، ما أثار جدلاً واسعاً داخل البلاد وخارجها، كما أثار تساؤلات كثيرة في الولايات المتحدة عمّا إذا كان الدستور يسمح للحكومة أن تقوم بمراقبة الخطاب السياسي أو الديني المسموح بهما قانوناً.
وقال لورينزو فيدينو مدير برنامج محاربة التطرف في مركز الأمن القومي والافتراضي بجامعة جورج واشنطن "أفهم أن الأمر مدعاة للقلق من وجهة نظر أميركية. ولكن النموذج الأوروبي المعمول به في أغلب البلدان قائم على التدخل المُبكر بمجرد رصد أولى علامات التطرف."
هل مانديلا إرهابي؟
لا أحد يُنكر أن دراسة الإرهاب أمرٌ صعب. فهي تتضمّن أسئلةً صعبة عن مواصفات الإرهابي، أو الثائر، أو الجندي. كيف نصنف نيلسون مانديلا والمجاهدين الفلسطينيين وطالبان اليوم والمجاهدين الأفغان حين دعمتهم وكالات المخابرات الأميركية؟
نادراً ما يتسنى للباحثين دراسة الإرهابيين عن قرب وجهاً لوجه، كما أن طرائق البحث العلمي، مثل مجموعات التحقق من النتائج، كلها نادرة.
عام 2005 خلص جيف فيكتوروف، عالم النفس بجامعة جنوب كاليفورنيا، إلى نتيجة مفادها أن أهم بحوث الإرهاب ليست سوى نظريات سياسية وبعض الروايات الشخصية.
فكتب في مجلة حل الصراعات The Journal of Conflict Resolution " إن نقص التحقيقات العلمية المنهجية حدا بصناع السياسة إلى صياغة استراتيجيات لمكافحة الإرهاب دون الاستفادة من الحقائق."
أما حين تصدر الحكومة توجيهات للبحث، فغالباً ما يستحيل تحديد مصدر تلك المعلومة.
على سبيل المثال، صدر تقرير عن المركز الوطني لمكافحة الإرهاب عام 2012 يقول إن القلق والفشل في تحقيق الرغبات والأماني الشخصية مع الإحباط والصدمة كلها عوامل تدفع بصاحبها إلى التطرف.
إلا أن المُستند نصّ من دون ذكر المصدر على أنه "لا يُشترط في كل المتطرفين أن يعانوا فشلاً في تلبية حاجاتهم الشخصية؛ بيد أن من يفشل في ذلك هم أكثر عرضة للتطرف."
كان من المفترض أن يساعد اكتشاف جذور الإرهاب على توجيه الناس بعيداً عن العُنف، لكن المشكلة أنه حتى الآن لا يوجد إجراء رسمي محدد يرسم كيفية استجابة الحكومة وتصرفها حال رصد أحدهم وإثارته للشبهات.
شخصيات دينية تعمل مع أميركا
فحكومة أوباما تتحدث عن خطط لتوفير شبكة من المستشارين والشخصيات الدينية والخبراء الذين لهم حق التدخل للمساعدة، بيد أن هذه الشبكة –رغم استثناءات نادرة- لم يتم تشكيلها فعلياً حتى الآن.
ومؤخراً أسند البيت الأبيض إلى وزارة الأمن القومي مهمة إدارة فريق عمل لتنسيق هذه الجهود، في خطوة تعد اعترافاً ضمنياً أن تحالفها الهزيل طوال السنين السابقة عانى نقصاً في التنسيق وتحديد الأهداف.
وقد أوضح جورج سليم، مسؤول الوزارة القائم على هذا الفريق، أن الحكومة الأميركية لم تكن نيتها أبداً إملاء أي سياسات، بل أنها نجحت في بدء الحوار وتعزيز العلاقات بين شرائح المجتمع وبين رجال الأمن والشرطة.
في مينيابولس، إحدى أهم المدن التي تطبق فيها الحكومة الأميركية مساعيها في مكافحة التطرف، قام أندرو لوجر، المُدعي العام لولاية مينيسوتا، ببناء علاقات مع الجالية الصومالية، و صرح بأن برنامجاً وقائياً على الأبواب .
وقال: "استغرق الأمر وقتاً طويلاً، ولكننا الآن على وشك جني ثمار الكثير من جهودنا."
بالرغم من أن الحكومة تحاول إخفاء استخدامها للقوائم المرجعية، إلا أن وزارة العدل تقدم منحاً مالية ومكافآت لأجل تطوير أداة "تقييم سريع" لمساعدة السلطات على "قياس احتمال" ظهور التطرف.
وفي العام السابق، أعلنت مؤسسة "إنترسبت" الإعلامية عن قائمة مرجعية حكومية تقيّم المستجوبين في التحقيقات الإرهابية بإعطائهم مجموع نقاط بناءً على عدة عوامل، منها شعورهم أن الحكومة تسيء معاملتهم، أو أنهم لا يثقون في أجهزة الأمن والشرطة، أو أنهم يعانون من التمييز العنصري.
وأشار السيد مكولي إلى أن العديد من زملائه وأقرانه أجروا بحثاً ذكياً وتوصلوا إلى استنتاجاتٍ محددة. ولكن المشكلة، حسب قوله، هي أن الدراسات لا تحظى بمزيد من الاهتمام إلا إن ألمحت إلى إشارات تحذيرية.
أما الأبحاث التي تربط الإرهاب بالسياسات الأميركية فتقبع في هذه الأثناء مُهملة تماماً.
ونبه العلماء إلى أن القوائم المرجعية حسابياً وعملياً محكومة بالفشل، بل حتى أن اختباراً ذا نسبة دقة 99% قد يخطئ أكثر بكثير مما يصيب.
الأبرياء أكثر من الإرهابيين
ورغم أن ذلك قد يكون مفاجئاً للتوقعات، إلا أن دولة بتعداد سكاني ضخم وعدد ضئيل من الإرهابيين تجعل حتى أدق الاختبارات تلصق شبهة الإرهاب بأناس أبرياء أكثر بكثير من الإرهابيين الحقيقيين.
وتتجلى هذه المشكلة أكثر ما تتجلى في مجال الخدمات الاجتماعية، فالبعض يتصل لطلب المساعدة لأشخاص يشتبه أنهم مقدمون على الانتحار فيما الحقيقة أنهم ليسوا كذلك؛ في هذه الحالة تكون العواقب قليلة وخفيفة. لكن عندما يكون مكتب التحقيقات الفيدرالية الخيار الوحيد، فقد تكون النتائج عندئذ قاسية.
ويقول جون هورغان، الأستاذ بجامعة جورجيا الحكومية، والذي قام بإجراء العديد من الدراسات المموّلة حكومياً "إننا نملك خطاباً جيداً جداً. ولكن من وجهة نظر الأمن القومي، ما زالت لدينا عقلية الاستنتاجات المبنية على تقييم وقياس عوامل الإرهاب ورصده المبكر بصورة مجموع نقاط وعبر العمليات الإيهامية للإيقاع بالمجرمين ."
مسلمون لديهم الحل
في مقاطعة مونتغومري بإحدى ضواحي واشنطن التابعة لولاية ميريلاند، تقع منظمة "Worde" والتي هي منظمة متعددة الأديان بقيادة مسلمين؛ ويرى أفرادها أنهم يملكون حلاً. حيث قدم أعضاء المنظمة للعائلات والقادة الدينيين قوائم تحتوي على إشارات تحذيرية، كالاكتئاب، والصدمة، والضوائق الاقتصادية، والمظالم السياسية. ويمكن لكل من يرصد هذه المؤشرات في محيطه أن يتصل بالمنظمة، والتي ستقوم بدورها بترتيب موعد لاستشارة دينية أو عقلية.
وتقول هادية مير أحمدي، مديرة المنظمة، أن تدخل رجال الشرطة لا يكون إلا عند ظهور تهديد بخطرٍ وشيك. وهكذا يقوم الناس بطلب المساعدة بكل راحة واطمئنان دون أن يتم وصمهم وإلصاق الشبهات بهم أو وضعهم تحت مراقبة الحكومة.
ولم يثبت البرنامج جدارته بعد؛ فقد أظهرت دراسة شبه كاملة وشاملة عن كفاءة البرنامج أنه يبلي بلاء حسناً في بناء وتوطيد أواصر المجتمع وعلاقاته، بيد أن الدراسة لم تقيم قدرة مجموعة Worde على تقليل معدلات العنف المتطرف.
تزعم السيدة هادية ميرأحمدي أن "لا أحد يختلف مع" قائمتها للأعراض التحذيرية، إلا أن الباحثين يشككون في صدق هذه المؤشرات وتدليلها على تطرف محتمل. ولكن مع ذلك، ترى حكومة أوباما في منظمة Worde نموذجاً يُحتذى به، فقدمت لها منحاً بـ 500 ألف دولار.
من جهتها تظل فايزة باتل، المحامية بمركز برينان للعدالة، متشككة، فمنظمة Worde لم تنشر بعد بروتوكولاتها في التدخل ولا وسائلها في تقييم أمورٍ كالمظالم السياسية. ولكن السيدة مير أحمدي ترد بأن إعلان ونشر بيان بمثل هذه الأدوات قد ينجم عنه الانزلاق إلى تفسيرها بشكلٍ خاطئ.
بيد أنها قالت أن الأمر مُجرد بداية، وأضافت أن مجموعتها قد قدمت النصح والإرشاد لحوالي عشرين شخصاً، وزودتهم بمساعدات ما كانت لتوجد وتقدم لولاها.
أما عن احتمال تطور إحدى هذه الحالات لتصل إلى العنف لولا جهود المنظمة ونصحها، فتقول مير أحمدي أن هذا ما يستحيل التكهن به.
– هذه المادة مترجمة عن صحيفة New York Times الأمريكية. للاطلاع على المادة الأصلية، يرجى الضغط هنا.