يحيى كثيرٌ من الناس عوالَمهم التي صنعوها لأنفسهم دون أن يدركوا أنهم أصحابُ صنعِها. يسيرون في طرق الحياة ظانين أن تلك الطرق وحدها قُدِّرت لهم. البعض يقع نظره على أشجار الطريق ، والبعض يتعثر نظره بين أقدام المارة .. والبعضُ يقعُ الطريقُ في نظره!
وكذا ديدنُ الناسِ في ولوجهم عالم الجمال، أو جلبهم جمال إلى عالمهم.
فحين يفكر الذهن في الجمال قد يقع تفكيره أسيرًا لتصورات بعينها حُددت سلفًا في الذهن يدرك في إثرها ما خفي عنه من إدراك للجمال. هنا يقع ما يثيرني من تجني على مفهوم الجمال. هذا المفهوم الذي تتجلى في طبيعته معاني الحرية والتفرد، تُخضعه أذهانٌ لقفصِ تصوراتها. وما تفعله هذه الأذهان في واقع الأمر هي أنها تُوقِعُ نظرَها على أشجارِ الطريق، على الرغم من أنها كانت قادرة على أن تدع الطريقَ – برمته وتفاصيله ومعانيه وماخفي فيه- يقعُ في نظرها.
العجيب في الأمر أن الذهن لديه مطلق الحرية في اتخاذ قرار تحديد مساحة النظر وتعيين التصورات، إلا أنه ينحاز لقرار التحديد والتعيين!
فهلا تخيلنا حال الذهن إذا قرر ألا يقرر مساحة الجمال، وألا يحدد تصورات لا عن معانيه في عالم الذهن ولا عن تجلياته في عالم الموجودات؛ أي أن المعيارية ستتنحى جانبًا، وهذا لداعي الجدل لا لإمكانية الوقوع.
هنا تتولى الأشياء الموجودة في العالم الخارجي التعبيرَ عن الجمال بأريحيةٍ أمام جمهورها من الأذهان المُنحي لأي قيد مسبق قد يصادَرُ به على أي من تعبيراتها.
ويثيرُ مسرح التعبير عن الجمال تساؤلًا عن كون وجود فرصة التعبير كفيل بالنجاح أم أن الفرصةَ ما هي إلا مساحة لاختبار النجاح ؟!
أؤمنُ بإن الفرصة اختبار. وبناءً عليه فإن الشيء صاحب الجمال الأصيل سيبرز في مواجهة أصحاب الجمال الثانوي وبالطبع أصحاب الجمال المزيف.
و هل نجاح الجمال الأصيل في البروز هو فقط المنفعة المحققة من إتاحة الفرصة ؟!
التباري نفسه حول الجمال .. جميل !
فجمهور الأذهان سيسبح في عالم من المتعة خلقته حالة المسرح والمتبارين. والأهمُ أنه سيمارسُ حالة الشغف الباحث عن الجمال الحقيقي..
والتباري بطبيعته يجلبُ شيئًا من الشراسة للمشهد . الشراسةُ التي تدفعُ المتبارين والجمهور للاحتياط بمساحة من الأمان .
هنا.. تتقدمُ المعيارية بقوة حالةً تلقائيةً دافعةً للخطر وجالبةً للأمان ..
هنا يسقط الفرض الجدلي ، وهو يعيدُ للمعيارية أهميتَها ووجودَها الحتمي.
لكن ..
المعيارية عند الذهن صاحب قرار تحديد مساحة الجمال مختلفةٌ عن المعيارية عند الذهنِ صاحب الفرض بإمكانية تنحيها ولو لفرصةِ الجدل.
المعياريةُ في الحالة الأولى صنعت قوالبًا لتعريف الجمال. قررت من من الأشياء له الأذن بالتواجد في نظر الذهن المدركِ للجمال، ومن ليس له حتى حق محاولة التلويح أمام الذهن باحتمالية كونه جميل.
أما المعياريةُ في الحالةِ الثانية تحترمُ الحرية، بل أنها تحبُ الحرية. ُتدركُ ماهية الجمال الحقيقي الذي لا يمكن أن يكون أسيرًا في قفصٍ ، حتى ولو كان قفص المبادئ الذهبي، الذي ربما تتوهمُ ذهبيته!
الفرق بين الحالتين .. كالفرق ما بين حاكم مؤمن عارف عادل، وحاكم قوي جاهل مسيطر ..
فالحاكمُ المؤمن حق الإيمان عارفٌ بالله، وحين عرف الله عرف ما خلقه اللهُ، وأدرك ماهية الخلق، فعدل في حكمه فيهم. عرف أن الله جميلٌ فكان الجمال أصلًا فيه، وعرف أن الأصل يتجلى في الخلق مادام صاحب الأصلِ هو صاحبُ الخلقِ. وعرف عن الله ما أكسبه معرفةً عن خلقه وماهياتهم الحقيقية لا تلك التي قد يتوهمها العقل في ضلاله فيضفيها ولا تلك التي تفيضُ من الأشياء كالسرابِ يوهمُ الظمآن بنبعِ الماء.
أما الحاكمُ الذي ابتُلي بأسباب القوة وعُوقِبَ بغمام الجهل فتوهم السيطرةَ على خلقٍ غفل عن خالقهم فجهِلَ به وجهِل عنهم، جار في حكمه فيهم.
منتهى القول .. أن الجمال أصيل في الوجود أصالته في الواجد وما أوجده في الوجود على إطلاق ما أوجد .. إطلاق يتناسب مع عدم القدرة على الإدراك – فضلا عن الإحاطة – بجمال الواجد.
وأن الإنسان متى درب نفسه على الحرية في عالم ذهنه أدرك الحرية فالجمال في عالم الموجودات بأسره.
أما إذا اختار أن يُسلط معياريةً جاهلةً مستبدة فهي إنما تتسلطُ على نظره لا تتسلطُ على الطريق الذي ينظرُ فيه.
فالعالمُ الذي خلقه الله عالمٌ رحب، يسبحُ فيه الجمال، أما العوالم التي صنعها أناس لأنفسهم عوالم ضيقة، يؤسر الجمال فيها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.