قالت إحداهن: إنني ذلك الطيف الذي يأتيها كل مساء في فترة التأمل، يؤنس وحدتها، يلملم شتاتها، ويصحبها إلى رحلة كتابة لاشعورية، ثم يتبلور كشغف لا ينقطع في رؤياها، فلما ابتسَمْتُ، انصَرفَت، وصارت هي طيفًا، يثير شجون الغياب، وفقط.
إذن في القاهرة نحن بين خيارين، أن نقترب فنحترق، أو نفترق!
(1)
الصدفة، وعد المحظوظين في مدينة لا تعترف بأي تراكم، سوى تراكم الذكريات البائسة!
أما أنا فكنت على موعد مع صوت أذان العصر لـ"الشيخ عبدالباسط عبدالصمد"، اتأمل روحانية النداء، وهو المطبوع في ذاكرتي، بطابع طفولي، يأخذني رغمًا عني إلى منزل عمّتي -رحمها الله- بمنطقة القطامية، حيث سيرة القاهرة الأولى، المنزهة عن القسوة، والملخصة في دفء أسري، وأحلام بريئة، تتجلى في مساء هادئ، ممهور بحكايات الجدة الحنون، رحمة الله عليها.
هي أيضًا، كانت تتأمل تغيرات وجهي، ولمّا انتبهت، أخبرتها قبل أن تسأل، بأنّ لكل مكان في وسط القاهرة، ذاكرة، وذكرى، وأنّ الشوارع لم تنس شهداء الثورة، لكنها على الأرجح، لم تزل تحتفظ بدموعها الكامنة، بفعل بقايا انبعاثات "قنابل الغاز"، تغيرت ملامحها -تمامًا كتغير المدينة بعد وفاة عمتي- وقرأت في لمعان عينيها السؤال الذي يؤرقنا معًا: ما هو الشيء الذي لم يسرق في القاهرة؟!
طلبت منها تأمل البنايات العتيقة، بالتوازي مع نظرات ماسح الأحذية على الرصيف المقابل، فقالت: أنت مجنون فعلًا!
(2)
هنا، تخور قوى التحمل، في مواجهة أبسط الاختبارات، حيث التناسب الطردي بين قوة الابتسامة، وحجم المأساة!
تكرر السؤال: ما الذي لم يعد مسروقًا في القاهرة؟ وتطلب مني تبسيطه، فهي لا يعنيها بلاغة الاستعارات، ودقة اللفظ، بقدر ما يعنيها، وضوح المعنى، أنقل لها ما قالته زميلتي التي تعكف على روايتها الأولى، أننا نعيش في وطن، مسروقة أحلامه، والسارق، والمسروق، لا يعنيهما سوى فعل "السرقة" كل صباح، تبتسم، وهي تقول لي: كنت أرجو أن يستمر أبي هنا، أن يعود من غربته، ليرحم غربتي.
يغلبها الشجن، حين تتحدث عن حياتها التي صارت في حضرة الغياب، الأسرة المشتتة، رهن توفير مستوى مادي مناسب، والأم التي فضلت جوار الأب في غربته، فضاعفت غربة الأبناء، والمجتمع الذي يقسو بتفضيلات معالم الثراء، مقابل تسفيه حكايات الفقد والاشتهاء، تلمع عيناها مرة أخرى، وهي تستجير من عباراتي المنمقة، هي أيضًا لا تريد أسرًا آخر لمشاعرها، وتشير إلى أنها تعيش في دنياها بقلب مستعار، وحلم مستعار، وأسرة مستعارة، وكأنها قصيدة مسروقة، لشاعرٍ ضلّ طريقه.
يخترق بائع متجول حديثها الشجيّ، يدعوها لاختيار ما تشاء من الخواتم، والإكسسوارات النسائية، تنظر إليّ بسخرية لافتة، وتصطنع ابتسامةً لا لون لها، شاكرةً سعي الرجل، وحين يولي وجهه، تستطرد قائلةً: "لا أحتاج الآن إلا حضن أبي، أريد أن أغسل بين يديه، أوساخ حرماني".
(3)
أيهما أكثر ألمًا، غربة مؤقتة، أم يتمٌ دائم؟ أيهما أيضًا يثير تعاطف القاهرة؟! إذا بدت لها عاطفة يومًا ماً!
أعود مرة أخرى إلى حكايات أبي -رحمه الله- وأنا حائر بين الرضا التام بفراقه المحتوم، وحنيني -منزوع الفائدة- قياسًا على حنينها الذي قد يثمر ذات يوم عن لقائها بوالدها، أتأمل في لحظات صامتة، خطواتي الأولى تجاه منزل عمّتي، وبراءة الخطى الآمنة في تشابك يدي بيده، وابتسامته من فضولي الزائد، وإجاباته الحانية، وحملي على صدره، حين يشتد الزحام على الأرصفة، كل شيء يدور في رأسي، وهي في مرمى أمنياتها المصلوبة على هجرة الأهل، وتركها وحيدة روحًا وجسدًا -بحسب عبارتها- وقد أزهقت المدينة الصمّاء، أرواح الأحلام الممكنة، لتدب الحياة في أوصال المستحيلات، المستحيلات وفقط.
الأنثى -أرستقراطية المظهر- التي يسكنها صراع الوجد، والفقد، تجدد بعفويتها، واقعة الطيف العابر لسابقتها، فيرهبني اقترابي، خشية الاحتراق، أو ما تطويه الحكاية من فراق!
(4)
لماذا تكره القاهرة الخيارات المفتوحة، وتصر على خيارين فقط "الغربة، أو الاغتراب"؟
مررنا بشارع محمد محمود بعد جولة قصيرة لشراء بعض المجلات، حيث زوال جدارية الملحمة، وبروز تشوهات الحاضر على وجوه ما تبقى من صور الشهداء، وأبطال الموقعة، دقائق السير لخصت لي ولها، كيف تجرأت المدينة على من أهدوها دماءهم طائعين، وأخبرتها قبل عبور باهت لميدان التحرير، أنّ كل الاختبارات، أكبر من احتمالات المقاومة، وأنّ الحنين الزائد إلى السند، يصلح أن يكون سندًا، في واقعنا الافتراضي، وافتراضنا الواقعي.
قد تحمل الصدفة أملًا، لكن القاهرة لا تحمل أملًا على سبيل المصادفة، هذا لأنها تطيح طائعةً بأحلامنا المرتبة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.