كحال معظم أمهات الأرض، كانت تقول لي والدتي دوماً عندما أتذمر من خوفها علينا أو قلقلها غير المبرر على حياتنا: "ستفهمين ما أشعر به عندما تصبحين أمًّا".
لم أُعر انتباهي لهذه الجملة قط، ولم آخذها على محمل الجد يوماً، فبعد بلوغي سن الرشد أصبحت الأقدر على تسيير أيامي والتصرف بها كما تمليه الظروف عليّ دون حاجتي لعين والدتي وملاحقتها المستمرة لي، وكم كنت مخطئة!
كم كان خطئي فادحاً عندما استهترت بتعب والدتي وإصرارها على إملاء النصائح مهما صَغُرتْ، وما كان مني الاعتراف بحُسن جميلها إلا بعدما أنجبت طفلتي وأصبحت امرأةً مختلفة خُلِقَتْ من رحمها حياة، وخُلقت لتعيش الحياة من جديد.
في طفولتي، وكأمرٍ فطري، كنت أضع -مثل باقي الفتيات- الوسادة تحت ملابسي كأني امرأةٌ حبلى، وفي لحظة معينة أمثِّل الصراخ فجأة، وأُخرج ما في ملابسي من أطفال وأتحول أمًّا على حين غرة، وعندما كبرت وحملت وعشت التجربة الحقيقية لم يكن الأمر بتلك السهولة مطلقاً، ولم يكن خروج الطفل للحياة ببساطة خروج الوسادة.
تسعة أشهور تعيد صياغة جسم الأنثى لتخلقها من جديد بتركيبةٍ عصبيةٍ وحسية غير مألوفة، وتصرفات وأفعالٍ خارجة عن السيطرة، عندما يصبح غذاؤها لقمةً مشتركة بين اثنين، ونومها مرهونٌ بحركة كائنها الصغير، ومزاجها تتلاعب فيه تقلباتٌ هرمونية لا تقوى على إدارتها، والتي من الممكن أن تضر علاقتها بشريكها ودائرة الأهل والمعارف المحيطين بها، فليست المشاعر ضمن تحكمها، ولا العواطف الباردة أو المشتعلة داخل حدودها، فتشيخ بعض خلاياها، ويضعف بناؤها العظمي والعضلي، وتلبس جسداً ممتلئاً يعيث في شكلها خراباً، ويزيدها عبئاً فوق استطاعتها.
تأتيكِ الولادة بعد أشهرٍ مضت كالسنين، لتتحول عدة ساعاتٍ في حياة المرأة إلى أكبر مخاوفها، وأشدها ألمًّا، وأكثرها وجعاً بشكل لا تطيقه الجبال وتعجز عن حمله أعتى القوى، ورغم ذلك تراها على قدرٍ من التحمل الصلب، وإن أُنهكت قواها وخارت طاقتها، لعلمها أن بعد المخاض ميلاد حياةٍ مُنتظرة، وكائنٍ أحبته الروح قبل لقياه، وصبرت في سبيل أمومته صبر الأنبياء والمرسلين.
تنتهي من آلام الولادة، ليأخذها منعطفٌ جديدٌ في الحياة مع مخلوقٍ يرى في أمه النَفس والحياة، يعتمد عليها لتسند ضعفه وتعينه على تلبية متطلباته الأساسية وحاجاته الطبيعية من المأكل والمشرب والإطراح والنظافة، وما إن تنتهي مرحلة الرضاعة والطفولة الأولى، حتى تصبح الوالدة أمام تحدٍ حقيقي في التربية والتعليم وبناء الشخصية، وما أصعب بناء الإنسان من اللبنة الأولى!!
وما ذُكر هنا إلا غيضٌ من فيض ما تمر المرأة به في حياتها، وما تقاسيه لأجلها ولأجل غيرها من العائلة والأبناء، والمتاعب التي تواجهها أثناء مسيرتها الاجتماعية والعملية، والتحديات التي تعانيها في سبيل بناء شخصيتها وتحقيق ذاتها في الحياة.
ولأني أصبحت أمًّا الآن، بتُّ على يقينٍ أن الأم إنسانٌ عظيم، يعيش لغيره قبل نفسه، ويعطي طاقته فداءً لجسدٍ آخر، ويرى في العناء والتعب راحةً في عيون الأبناء والأحبة، فلا تملُّ التضحية مهما ارتفع الثمن، ولا تكترث للمشاق وإن أوهنت قواها.
الأم إحدى أسرار الله في الأرض، والأمومة معجزة إلهية خصّ الله بها الإناث دون الذكور، لثقل أمانتها وعظيم شأنها عند خالقها، فمن كانت أمه عند بارئها، فليدعو لها بالمغفرة والرحمة كما ربته صغيراً، ومن كانت والدته حيّةً ترزق، فليبذل جهده لإسعادها وإسدائها الدَين الذي أغرقته حُبًّا به منذ لحظة تشكله في رحمها، إلى لحظة حياتها الأخيرة، فعسى أن نكون أبناءً بررة بوالدينا، وأمهاتٍ وآباء قادة في القدوة الحسنة لأبنائنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.