ذهبت أمي

أخذتُ منها كل شيء.. راحتها، صحتها، وقتها، عقلها، كل شيء امتلكتْه كان ملكاً لي دون مقابل ودون قيد أو شرط، لا.. غير صحيح، كان هناك قيود وشروط هي أن أكون دوماً بأفضل حال، مهما تعبتُ، ومهما الزمان بي لأصل إلى ذلك طال، تفعل المستحيل من أجل ذلك لا كلل ولا ملل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/21 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/21 الساعة 08:44 بتوقيت غرينتش

عشتُ طوال عمري أفكر فيها، ولا أدري أخلقت أنا من أجلها أم خلقت هي لأجلي؟ هي كل شيء بلا قيود، هي نبع الحنان بلا حدود، هي جنة أعيش فيها بعد أن أخرج الله آدم من الجنة، رؤوف بنا ولم يحرمنا جنة على أرض سخرت لنا، هي أكبر من الجنة..

كيف لا؟.. وقد جُعلت الجنة تحت قدميها، كيف لا؟.. وقد أوصى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً..
كيف لا؟.. وقد أعطت الكثير دون مقابل، عطاءً لا محدود طوال عمرها، إلى أن تموت، ليس ذلك فحسب فهي تعطي حتى بعد الممات، فبذرة الحنان التي تزرعها بداخل كل منا تجعل روحها ترفرف دوماً حولنا، هي من منحت كل ما لديها من نِعَمٍ دون أن تشغل بالها بالتفكير، دون حسابات في زمن نعيش فيه بورقة وقلم ونتعامل فيه بمبدأ: ماذا أخذت لكي أعطي، لها مبدأ خاص بها يقول: أنا كيانات عدة في كيان.. أنا روعة الخلق ونموذج للإنسان.

أخذتُ منها كل شيء.. راحتها، صحتها، وقتها، عقلها، كل شيء امتلكتْه كان ملكاً لي دون مقابل ودون قيد أو شرط، لا.. غير صحيح، كان هناك قيود وشروط هي أن أكون دوماً بأفضل حال، مهما تعبتُ، ومهما الزمان بي لأصل إلى ذلك طال، تفعل المستحيل من أجل ذلك لا كلل ولا ملل.

أنا كل الحياة بالنسبة لها وأنا كل الكون، لا أدري أهي فلكي أسبح فيه أم أنها تسبح في فلكي، لا تعرف البخل في العطاء، تعطي بسخاء في كل شيء مهما كان ومهما كلف الأمر، ولو كان الأمر يشقّ عليها ويرهقها حتى لو أدى بها الأمر للموت المهم أنا، كم من أم ماتت أثناء الحمل وأثناء الولادة، كم من أم عاشت ورغم ما بها من الالآم شعرت بالسعادة، كم من أم اكتفت بما لديها من قلة أما بالنسبة لنا باتت تدعو الله وتطلب منه لنا الزيادة؟

كم من أم وكم، ما أروع هذه الكلمة، يتيم من فقدها، سقيم من حرم من حنانها، بائس من تطاول عليها، كنت لا أخاف أبداً، وكيف لي أن أخاف عندما تأخذني بالأحضان، كيف أخاف وكانت تحميني في كل وقت ومكان، عندما أتعب أبحث عنها، عندما أثور هي من تربت علي، عندما أحتاج هي من تعطيني، هي داعمي وسندي ومعلمي، ملهمتي وكل غايتي، هي أشعاري ومقالاتي وحكمتي، كانت وكانت.. لا حدود ولا قيود فقلب الأم لا يعرف حدوداً، لا يعرف غير العطاء وأي عطاء هذا.. لقد ملأت قلبي وروحي وعقلي.

بحثت في كل الكون فلم أجد أرقَّ منها مهما كانت قوية، ولم أجد من يمتلك تلك القدرة على المنح كقدرتها، الله أكبر من كل ذلك هذا أمر طبيعي، لكن عندما نتكلم عن البشر فهي كبيرة بكل معنى الكلمة، هي أكبر من البشر مع كونها منهم، هي العطاء، هي تمتلك كل شيء، هي خارج حدود البشر، لعلها رمز من الرموز أو آية خلقت لتعيش معنا ولنأخذ منها العظات والعبر، هي مثل الماء الجاري ومثل أشجار محملة بالثمر، لا تنتظر شيئاً منا إلا ابتسامة، مهما كان عمرنا لا فرق لديها، فالعطاء ينساب عندها ولا يتوقف، نبع الحنان أبداً لا ينضب ولو بلغت من الكبر عتياً، كم جاعتْ لتطعمنا وكم سهرت لتداوينا وكم وكم من كل شيء.. مهما قلتُ عنها فما أعطته أكبر بكثير، لن يستطيع إنسان من بداية خلق آدم إلى أن تقوم الساعة وصفها ووصف عطائها، فهي أم والأم مدرسة وجامعة وشمل وعائلة وكل شيء.. كل شيء.. الأم حياة..

أنا يتيم فقدتُ والدتي في قصة عجيبة لم ولن أنساها، كنت مسافر إلى نيجيريا في مهمة دراسية، كنت أقيم معها في نفس الدار لا يفصل بيني وبينها سوى جدار، ذهبت إليها وقبلتُ رأسها ويديها وطلبت منها الدعاء، احتضنتي وكم كان ذلك الحضن أليماً مع جماله وروعته، حضن ليتني مت فيه، فقد متُّ بعده مرات ومرات، سافرت ولم أعلم ما قد كُتِبَ عليَّ.

وصلت لوجهتي وعلى الفور اتصلتْ بي أختي تعزيني في وفاة أمي، نعم ماتت، كأنها عرفت ذلك أو شعرت به، اسودَّتْ كل الأشياء، ولم يعد هناك شيء في حياتي إلا الرغبة في العودة لرؤيتها واحتضان جسدها وروحها التي غمرتني بالكثير، يوم عصيب وأي يوم هذا! الناس من حولي تواسيني، ولكن من الذي يستطيع أن يصبرني وينسيني.

ذهبتْ وتركتني بلا مأوى فقد كانت هي المأوى والملاذ، حاولت وحاولت أن أعود ولكنني مرتبط بمواعيد وقيود، كسرت كل ما يمكن كسره من قيود؛ لأنني لم أطق صبراً، أذكر أنني علمتُ أن هناك طائرة ستقلع بعد ساعات من مدينة أخرى، والوقت ضيق، ولا أمل، ولكن الأمل بالله دائماً موجود، سافرت إلى تلك المدينة ومن خلف السياج رأيت الطائرة وهي تتحرك استعداداً للإقلاع.

قفزت فوق كل الحواجز وعبرت كل البوابات ورجال الأمن يركضون خلفي، صعدت إلى برج المراقبة طالباً منهم أن يأمروا الطائرة بالوقوف، لم يعرفوا ما الأمر فالصورة الظاهرة هو عمل إرهابي لكن عناية الله أحاطت بي لم يتحدث معي أحد إطلاقاً عندما علموا بأمر أمي، تحدثت مع المسؤول فتحدث بدوره إلى كابتن الطائرة الذي رفض طلبي مع الحاحي وبكائي وتوسلي، طارت الطائرة وأنا أصرخ ألماً، الله يرعاني في محنتي فهو أعلم بحالي من كل البشر، سخر لي أحدهم فأحضر لي طائرة من العدم، حقيقة عشتها وليست مجرد كلام أكتبه، طائرة تحلق ليس ببعيد طلب منها تغيير وجهتها والهبوط، هبطتْ من أجلي ومن أجلي فقط، لا.. ليس من أجلي، من أجل أمي، نعم.. من أجلها.

هبطتْ الطائرة وصعدتُ فيها بمفردي، وصلت إلى بلدي بعد فوات الأوان لكنني وجدت أمي أمامي، وجدتها تجلس أمامي وتحتضني بمجرد دخولي، ماتت ولكنها تركت لي من يعوضني عنها ليس كمثلها، تركت لي إخوتي، فكلهم أمي أو جزء منها، رحمك الله يا أمي ورحمك الله يا أبي كنت أتمنى أن تكونا معي لأعيش لكما خادماً، لأعيش لكما ظلاً لا يفارقكما، أي حياة هذه وأنتما لستما معي؟ وأي سعادة أشعر بها وقد حرمت منكما؟!

لكل من لديه أم وأب لديكما نعمة تمنوا أن لا تزول، حافظوا عليهما، وأعلموا أن من فقد أمه لن يرتاح مهما طال به الزمان وسيبكي مثلما أبكيها، وسأظل أبكيها لآخر يوم في عمري، نعمة تحتاج للرعاية والاهتمام، وإن بخلتم عليها فلا حاجة لها بكم فالله قد جعل الجنة تحت قدميها سيكون عالماً بما قدمت وسيجازيها.. أمي أتمنى أن تسمعيني وأنا أقولها فقول كلمة أمي يكفيني ويبكيني ففي قلبي من الألم الشيء الكثير على رحيلها عني ولكن حكمة الله فوق كل شيء، سلام عليك يا أمي.

ولها، لذكراها، لروحها الطاهرة.. أقدم هذا العمل المتواضع أغنية "أكبر قلب" من كلماتي كامل بدوي وغناء علاء عبد الخالق وعصام عباس.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد