زمان، حينما كنتُ طفلة، أو تحديداً في مرحلة المراهقة، كنت أتأفف من أوامر أمي، لم تطلب مني يوماً ترتيب غرفتي، أو مساعدتها في أمر إلا وأطلب منها التأجيل قليلاً حتى انتهى من مشاهدة مسلسل، أو محادثة صديقتي على الهاتف، أو تسريح شعري، أو ما شابه من أعمال تحب فتيات اليوم القيام بها، وكانت قد انتشرت على أيامنا المسلسلات المكسيكية، وأمي تشتكي مني دوماً وتبدي خوفهاً من متابعتي لقصص الغرام التي تعرضها هذه المسلسلات، وتقول "إنكم جيل خربان، والله يستر عليكم من هالمسلسلات"، وذلك ما أقوله اليوم وأنا أعاتب ابنتي على مشاهدة المسلسلات التركية.
طبعا هذه ليست دعوة لمشاهدة المسلسلات التركية والمكسيكية، مع ما هو معروف من ما تدخله من نهج منافٍ لنهجنا وعاداتنا العربية، ولكن، هي ربما دعوة لعدم تهويل الأمر وإعطائه حجماً أكبر من حجمه، إذا شاهدت ابنتك مسلسلاً لمدة ساعة في اليوم، وشاهدت أخلاقك، وحنانك، وتعاطيك الإيجابي المليء بالحب لها والاحترام والثقة، والنصح المنتقى بعناية، والإلحاح لمدة عشرين ساعة في اليوم، بالإضافة إلى أنها تعيش في مجتمع يتنافى مع ما تعرضه هذه المسلسلات، فأيهما سيكون له بالغ الأثر، مسلسل ساعة، أم تربية لعشرين ساعة، طبعاً العشرين!
ولذلك كبرنا، وقلبتنا التجارب، ما بين مد وجزر، وحق وباطل، حتى عرفنا وجهتنا الصحيحة، وتحولنا في النهاية إلى نسخة طبق الأصل عن آبائنا وأمهاتنا، حتى أنني اليوم أتأمل بعض التصرفات والقرارات وحتى الكلمات والحركات، وأقول بيني وبين نفسي، حينما ألتفت لبعض من هذه التصرفات: "تماماً كما كانت تفعل أمي"!
وأنا بصراحة مؤمنة بالمثل القديم: "اقلب الجرة على تمها، بتطلع البنت لأمها" هذه هي نظرية الاكتساب، الذي يحدث رغم أنوفنا، وعلى الرغم من تلك الصفات الكثيرة التي نعتقد أنها سيئة في أبنائنا، وتلك القرارات التي اتخذها آباؤنا بحقنا، وكنا نعتقد يومها أنهم ظلمونا، فإذا بالأيام تدور، ونتخذ نحن نفس القرارات لأننا لم نجد أكثر منها عدلاً!
وأنا لا أقول إن كل واحد منا سيكون نسخة طبق الأصل من والده أو والدته، لكن صدقني حقق في صفاتك فستجدها كلها مكتسبة منهما، فغالباً ما نرى أبناء الأطباء وقد أصبحوا أطباء كآبائهم، وأبناء المهندسين كذلك، وأبناء اللصوص أيضاً، وتلك من وجهة نظري قاعدة والشاذ عنها أن يخرج من صلب لص ابنٌ شريف، متعلم ومحترم، أو أن يكون ابن الطبيب والمهندس، أو أن يكون ابن إمام الجامع، ولد "مالوش لازمة" ومدمن مخدرات، هذا هو الشذوذ عن القاعدة، لذلك أرى أنك جزء من والديك في كل شيء، فلا تستعجل أبناءك، ولا تبدي يأساً لأنك كنت أفضل منهم كما تدعي.
فأنا مثلاً، لم أكن في يوم من الأيام "حريتة دراسة" بالمعنى العامي، ولكني كنت أتجمل على ابنتي ليل نهار، وأبصم لها بالعشرة أني كنت من الخمسة الأوائل، وبتميزي كانت تفتخر أمي، وزميلاتي، ومعلماتي، وأنا لم أكن من الأوائل و"لا بطيخ"!
ثم مللت في النهاية ففجرت لها هذه القنبلة، وأخبرتها بالحقيقة، في لحظة صدق، ومن يومها شعرت بالسعادة، فهي لم تتغير، ولم تصبح الأولى، لكنها أيقنت أن مصيرها ليس الفشل إن لم تكن الأولى، وبأنها سعيدة لأنها ستصبح نسخة عن أمها، يعني، مصير مش بطال برضه!
بينما أظل أنا أنظر خلسة إلى تصرفات ابنتي، فأرى ما فيها نسخة طبق الأصل، تلتصق بي أكثر، وتقلدني كلما كبرت، تماماً كما أنظر أنا الآن في المرآة لأشاهد صورة أمي مطبوعة في ملامحي، رحمها الله رحمة واسعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.