قبل أن تُصبح أنقرة عاصمة لتركيا قبل 93 عاماً، كانت مجرد قرية ريفية صغيرة، لكنها اليوم ثاني أكبر مدينة في البلاد، ويبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة. على مدى الأشهر الـ5 الماضية ضربت 3 تفجيرات ضخمة المدينة، ما تسبب في مقتل نحو 170 شخصاً وترك السكان في قلق مستمر حتى الآن. تُخيم المخاوف على هذه المدينة – التي كانت هادئة يوماً ما وكانت في طريقها لتصبح عاصمة الشرق الأوسط – من أن تغرق في الإرهاب والدماء.
سلسلة الهجمات الحالية بدأت في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما فجّر عضوان في تنظيم "الدولة الإسلامية" نفسيهما في حشد من الأفراد الذين تجمعوا في مسيرة سلمية بالقرب من محطة القطار الرئيسية، ما أسفر عن مقتل 102 شخص.
ثم قام انتحاريان تابعان لتنظيم صقور حرية كردستان (TAK)، وهي جماعة متشددة يقال إنها تتبع حزب العمال الكردستاني (PKK) المصنف في قائمة الإرهاب، بتفجير سيارة محملة بالمتفجرات قرب حافلة عسكرية تخرج من الثكنات العسكرية، وذلك على بُعد بضع مئات من الأمتار من البرلمان، ومقر الأركان العامة. سبّب الانفجار الضخم – الذي أسفر عن مقتل 29 شخصاً، معظمهم كانوا من أفراد الجيش – صدمةً في كافة أنحاء العاصمة، حسب تقرير أعدته صحيفة المونيتور الأميركية، السبت 19 مارس/آذار 2016.
استعدادات أمنية خاصة
لمواجهة العنف المتصاعد قدم رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو – بعد بضعة أيام – خطة حول الاستعدادات الأمنية الخاصة، ولكن وبعد 3 أسابيع، في 13 مارس/آذار الماضي، استيقظت المدينة على تفجير جديد لسيارة مُلغّمة، وتبنته كذلك جماعة "صقور حرية كردستان" فيما بعد. وضرب ذلك الانفجار ميدان كيزيل آي في قلب المدينة وعلى بعد 200 متر فقط من مبنى رئاسة الوزراء.
تردّد صدى الانفجار الذي استهدف مركزاً للنقل في جميع أنحاء المدينة، وأسفر عن سقوط 37 قتيلاً. وعمَّت الفوضى وتصاعد الخوف والذعر بين السكان إلى مستويات غير مسبوقة، وبدأت الصحف في عقد المقارنات بين أنقرة وبغداد. وذكرت صحيفة "الجمهورية" اليومية أن حصيلة القتلى بمدينة أنقرة نتيجة حوادث إرهابية منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي تجاوزت مثيلاتها في بيروت وكابول ومقديشو.
أضحى القلق واضحاً على جميع مَنْ بالمدينة، خاصة في مراكز التسوق، التي كانت قد أصبحت علامة مميزة بمدينة أنقرة في السنوات الأخيرة. تضم العاصمة 33 مركزاً للتسوق، العاصمة التي تُعتبر مملة إذا ما قُورنت بمشاهد إسطنبول الخلابة. وغالباً ما يكون هذا الموضوع محلاً للنكات بين سكان المدينة؛ لأن مراكز التسوق تُعتبر المنتزهات المطلة على البحر للمقيمين في أنقرة. ورغم تلك النكات، إلا أن مراكز التسوق تجذب عشرات الآلاف من الأشخاص يومياً، ليس فقط للتسوق ولكن أيضاً لقضاء وقت الفراغ والتنزه.
غياب المتسوِّقين
وللتعرف على رد فعل ساكني المدينة قام الصحفيون بزيارة لاثنين من أكبر مراكز التسوق بها في 16 مارس/آذار الحالي. في مركز تسوق "أنكمال"، الذي يقابلك بموقف سيارات عملاق وفارغ في نفس الوقت، رجح حراس الأمن أن عدد زوار المبنى قد قلّ بنسبة ربما تزيد على 50%. كما خيم الصمت على المبنى بدلاً من الصخب المعتاد. وعندما سألنا عن حشود المتسوقين الغائبة، قال أحد عمال النظافة: "هل يمكن أن يُصبح الوضع أسوأ من ذلك؟ إذا سارت الأمور على هذا المنوال فإن الاقتصاد سينهار، وسنصبح بلا عمل. لماذا يحدث كل هذا؟".
وتجاذبنا أطراف الحديث مع بائعيْن شابين متجهمين يعملان في مستحضرات التجميل. وتذمَّرا من أن الساعة تناهز الرابعة عصراً ورغم ذلك لم يبيعا أي شيءٍ حتى الآن. بينما لم يكن العمال بأحد المقاهي القريبة والذي يتبع لأكبر سلسلة مقاهي في تركيا، يخدمون سوى 5 طاولات فقط. وروى أحدهم لنا كيف أصبح المركز التجاري الممتلئ في الأوقات الطبيعية مهجوراً بالكامل بعد ساعتين فقط من التفجير السابق.
قال: "في الأوقات الطبيعية معظم الطاولات ستكون ممتلئة بحلول هذه الساعة". ووافقه الرأي نادل آخر ملقياً باللوم على موجة الذعر والشائعات المنتشرة عن حدوث هجمات جديدة، "كان هناك إنذار خاطئ بوجود قنبلة في هذا المركز التجاري أيضاً. لكنني لست متوتراً. يمكن أن يحدث هذا في أي مكان. بالإضافة لذلك فإذا كان الناس يتحدثون بالفعل عن هذا الأمر – التفجيرات – فلن يقوم – المفجرون – بهذا هنا حتى لو كانت لديهم النية".
وبعد بضعة كيلومترات من هذا المكان، كانت منطقة وقوف السيارات المفتوحة التابعة لمركز أرمادا التجاري بها الكثير من المواقع الشاغرة أيضاً. كما كانت منطقة تناول الطعام بالمركز هادئة بالمثل، رغم كونها مزدحمة بشدة في المعتاد. كشف التحدث مع اثنين من الموظفين المشاعر السائدة، فقد كان التفجير الثالث ذا تأثير وصدمة أكبر بكثير من التفجيرات السابقة، وستستغرق عودة الحشود مرة أخرى وقتاً أطول هذه المرة.
وقال لنا أحد الموظفين بأحد مكاتب المبنى وهو في طريقه للمنزل: "أصبحت جميع المكاتب مهجورة تقريباً. أنا أعمل مع الأجانب، وقد ذهبوا هم أيضاً. ماذا حدث لبلدنا؟".
ذهبنا بعد ذلك لمتجر إحدى الصديقات، وهي عضوة في حزب العدالة والتنمية الحاكم. فلم نجدها هي ولا أياً من العملاء. وأخبرتنا في محادثة هاتفية قصيرة بأن الأعمال أصبحت سيئة لبعض الوقت، وزاد التفجير الوضعَ سوءاً. وقد ألقت باللوم على حزب الشعب الديمقراطي (HDP)، الذي يتهمه حزب العدالة والتنمية بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، فقالت: "لا يمكنني أن أعبّر لكم عن مدى غضبي من كل أولئك الذين صوّتوا لصالح حزب الشعوب الديمقراطي".
غياب المارة
وعلى بعد ما يقارب 4 كيلومترات من المراكز التجارية، كان ميدان كيزيل آي (موقع التفجير الثالث) في صورة لا مثيل لها في كل أنحاء العاصمة. كان موعد التفجير حوالي السادسة والنصف، أي ساعة الذروة. وبدا الطريق الرئيسي في أنقرة، الذي يعبره ما يقارب مليون فرد يومياً، غريباً ويصعُب التعرف عليه بسبب أعداد المارة القليلة. لدرجة أنه بإمكان المرء عدّ المشاة المنتظرين عند إشارات المرور. وقد بقيت واجهات المحلات المحطمة من أثر التفجير مغطاة.
وبعيداً عن وسط المدينة، افتقد طريق "تونالي حلمي"، وهو أحد أكثر الطرق حيوية بأنقرة، حشودَ المشاة المعتادة وحركةَ العربات الكثيفة أيضاً. كما أغلقت أكثر من نصف المحلات التجارية المطلة عليه، بينما يمكن للمرء ملاحظة الكآبة المطلة من تلك المحلات التي بقيت مفتوحة، ما يجعل المرء يتساءل: "ما آخر هذا الطريق؟".
كما تعرّض قطاع الترفيه لضربة قوية. وقال عرفان دمريكول، مالك أكبر سينما في منطقة كيزيل آي: "لم يأت أحد إلى هنا في اليوم الأول (بعد الانفجار)، لذلك قمنا بإلغاء جميع العروض. والآن في اليوم الثاني قمنا بإغلاق جميع القاعات مرة أخرى. نحن ننتظر انتهاء الخوف والذعر. بعد التفجيرات السابقة استغرق الأمر 3 أو 4 أيام. لا يتعلق الأمر بالمخاوف الشخصية أو بالشركات، لكننا نريد أن تصبح البلاد مكاناً آمناً؛ لأن الشركات الصغيرة تعاني أكثر من غيرها".
وقال أورهان كارساك، الذي يملك ساحة بها أكثر من 100 متجر في كيزيل آي: "لا يستطيع أصحاب المحلات القيام بأعمالهم؛ لأن الناس لا يخرجون من منازلهم. كنا قد بدأنا العودة للوضع الطبيعي للتوّ بعد الانفجار الثاني، والآن عدنا الى نقطة الصفر. يجب على الحكومة تفعيل تسهيلات الدعم الخاصة بالظروف الاستثنائية، وإلا سيتحطم أصحاب المتاجر الصغيرة".
وقال المدير الإقليمي لإحدى السلاسل المشهورة للبيع بالتجزئة، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه: "الجميع في حالة ذعر. فبعض الأصدقاء يتصلون بي ويحثونني على البقاء في المنزل، متحدثين عن تحذيرات من التفجيرات. ومع ذلك، فالخطر الحقيقي هو أن يرضخ الناس لهذا الوضع. نفس الأمر يحدث معنا. من المفترض أن نتحدث إلى العملاء ونقوم بالمبيعات، ولكننا نشعر بالضغط النفسي، فيُحدث المرء نفسه قائلاً: ما الذي أقوم به؟ عودة العملاء لمراكز التسوق ستستغرق وقتاً أطول بكثير هذه المرة".
هذه المادة مترجمة بتصرف عن صحيفة Al-Monitor الأمريكية.