ابني “عمل دماغ قراقيش”!

أذكر فيما أذكر و أولادي أطفال أنني كنت أعزلهم تماما عن كل مصادر التلوث السمعي و الإعتداء على الإنسانية اللي اسمه أغاني شعبية ، و في يوم من الأيام اتفاجئت بابني بيرقص رقصة عجيبة كأن في يده مطواة و بيغني بمنتهى اللذة " أنا عامل دماغ قراقيش "

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/19 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/19 الساعة 04:47 بتوقيت غرينتش

ملحوظة: هذه التدوينة كتبت أجزاء منها بالعامية المصرية

طول عمري عندي عقدة من الأغاني الشعبية، حاولت كتير أفهمها أو على الأقل أتفهمها فكانت النتيجة بالظبط كما لو إنك قعدت الفنان الجميل عبد الفتاح القصري في دار أوبرا صيني وطلبت منه يستمتع بالعرض مع الجمهور الصيني. فيقوم واقف في نص المسرح وقايل : فن؟!!! أنا مش شايف أيتها فن .

ده نفس إحساسي بالظبط لو سمعت أغنية شعبي ( بالصدفة البحتة طبعا ) .
كلمات عجيبة وألحان أعجب.. يعني إيه ( فرتكة فرتكة.. ع الطبلة وع السكسكة )؟

طب إذا تغاضينا عن الفرتكة.. يعني إيه سكسكة، بلاش دي.. يعني واحد يغني للدنيا خربانة.. أو واحد يعمل دماغ قراقيش.. بيعملها إزاي دي؟!

عمري ما تعاطفت مع اللحن المكرر بدون أي ستين لازمة.. نفس اللحن ( إذا أسميناه مجازا لحنا ) ونفس الدوشة موضوع عليها كلمات عجيبة أشبه بطلاسم عمل سفلي. يحاول به الكائن المطرب أن يوحي للمستمعين آل إيه إنه بيقول طرب.
بتستفزني جدا ملابسهم الخارجة عن كل نسق للجمال وباحس إنها بتتحرش بكل معاني الرقة والبساطة والراحة للعين والنفس، تسريحة شعرهم بالنسبة ليا لغز كبير هل بيسرحوه بزيت عربيات واللا بشحم خام .

أذكر فيما أذكر وأولادي أطفال أنني كنت أعزلهم تماما عن كل مصادر التلوث السمعي والإعتداء على الإنسانية اللي اسمه أغاني شعبية، وفي يوم من الأيام اتفاجئت بابني بيرقص رقصة عجيبة كأن في يده مطواة وبيغني بمنتهى اللذة " أنا عامل دماغ قراقيش " وكأن صاعقة ضربتني في نافوخي، وصرخت : لااااااااا
لقد حدث اختراق لبيتي، بيتي أبو عتبة طاهرة بيتعمل فيه دماغ قراقيش.
وأحسست نفس إحساس " هالك" لما لونه بيخضر ويتضخم ويتحول، وناديت ع الواد .
– خد ياض.. إنت سمعت الأغنية دي فين؟

وانتفض الولد مذعورا وأدركت معها درجة الوحشية التي ألقيت بها سؤالي.. وقررت إني "تشيل أوت " على رأي بتوع الإعلان.. وسألته بلهجة أقرب للآدمية :
– عمر حبيب ماما.. سمعت الأغنية دي فين؟
رد بمنتهى البراءة ( أيامها كان برئ والمصحف ) :
– في العربية يا مامي .
– عربية مين يا روح مامي؟
– عربيتنا.. محمد السواق عامل فلاشة عليها أغاني جميلة كل يوم بنسمعها وإحنا رايحين المدرسة .
شعرت إن أنيابي طالت فجأة، حتى أنها خرجت من فمي، ولسبب مجهول شعرت برغبة جامحة في تذوق دم " محمد " .
لكن الواد المزغود زادني من الخمر كأسا، وقال :
– ده الكلاس كله بيحب الأغنية دي جدا وبنرقص عليها في البريك .
و دارت رأسي : كلاس، قراقيش، بريك؟؟؟ يا خسارة التعليم الأفرنجي يختااااااااي .
حقيقة لا، ولم، ولن استوعب بتاتا أي فن في هذه الأغاني، إنها إن دلت تدل على درجة الإنحطاط التي وصل لها الذوق العام، وأراها مؤشر خطير جدا على نوعية المواطن الذي صرناه .
أي فن وأي حضارة وأي إبداع يمكن أن يقدمه للإنسانية مواطن يطرب لأغاني قراقيش والدنيا خربانة .
أستطيع وأنا مرتاحة الضمير أن أربط تطور الفن الشعبي بالتعليم والحس الوطني.

أذكر وأنا طفلة صغيرة لم أتعد السابع من عمري، أنام على كتف جدي واستمع معه إلي الراديو كل مساء لأغاني تحكي قصص أبو زيد الهلالي، كنت لا أستطيع تفسير الكثير من الكلمات وكان جدي يتولى تلك المهمة، أتذكر شوقي ولهفتي وانتظاري لموعد ذلك البرنامج الإذاعي، كان فنا يحمل في طياته تدعيم الحس الوطني وإذكاء الحمية وفي نفس الوقت لا يخلو من الطرافة والإثارة والتشويق .
أذكر أنني لم أكن أستاء من فن أحمد عدوية ( لم استسغ يوما فن شفيق جلال ) كنت اعتبره أقرب للطرفة اللذيذة التي ترسم الإبتسامة على الشفاة .

أما ما يحدث الآن فهي درجة أو دركة من الانحطاط الخلقي والذوقي ارتبطت بتدهور العملية التعليمية في مصر وما صاحبها من تدهور للتربية والآداب العامة .

إن انتشار هذة النوعية من الأغاني يضاهي حصولنا على المرتبة الثانية عالميا في التحرش الجنسي، أو المرتبة فبل الأخيرة في التعليم. ويوازي حالة الإحباط التي أصابت مجتمعنا مع فشل ثورته الداعية للعيش والحرية والعدالة الإجتماعية. ويحضرني هنا أغاني ميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير، حيث كان الميدان يضج بأغاني الشيخ إمام والفاجومي، وأغاني سيد درويش وأمين وفؤاد حداد والبرغوثي وغيرها من الأغاني الوطنية. لم نسمع أيامها هذا الخبث الذي يسمى افتراءا وتطاولا " فن شعبي " .

لكنه عاد وغزانا مع حالة الإحباط والتردي الذي صاحبت أحداث ما بعد الثورة .

الأغاني والموسيقا مرآة تعكس الحالة العامة للمجتمع، فإذا انعكست صورة المهرجانات وهذة النوعية الغريبة من المطربين فلابد فعلا من وقفة مع النفس .

ناقشت الموضوع مع ابني الذي صار شابا يستمع للموسيقى الغربي منها والعربي ويرى أن المهرجانات ( هكذا يسمي الأغاني الشعبي ) فن سواء تقبلته أو لم أتقبله، فليس المطلوب من الفن أن يتحرى أن يعجب كل الناس، فأذواق الناس ليست واحدة. وبعد جذب وشد ونقاش حامي فتح كاسيت سيارته ( حيث كنت اركب بجواره أثناء النقاش ) وسمعت صوت حليم ينساب عذبا ( حبيبها.. لست وحدك حبيبها ).. نظرت إليه مبهورة ويا دوب لسه هاقول : ما شاء الله.. بقيت بتسمع حليم .
انفجر صوت بعد عبد الحليم صارخا ( دي مصاحبة الشلة كلها ) وصريخ وطبل وأصوات أقرب للزار البلدي. وانفجر ابني ضاحكا وهو يرقص على الأنغام المجنونة، وأنا أردد : حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل .

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد