ما زلت حتى الآن أذكر أول جنازتين شاهدتهما في حياتي.. وهما أول شيء وضعا حياتي على المحك.. وأول ما فتّح عيني على حقيقتي بين دنيتين..
كانت الجنازة الأولى للشهيد "يحيى عياش"، أما الثانية والتي كانت في فترة متقاربة تقريبا هي جنازة الأميرة ديانا..
كنت حينها في الثامنة من عمري.. لم أكن أعلم أيًّا من الاثنين ولم أسمع بهما من قبل، ولم يُثر فضولي الطفولي إلا جنازتهما..
فرُحت أتوق لمشاهدة كل البرامج الوثائقية والإخبارية التي تعرض حياة ديانا..
ورحت أبحث بشوق عن حياة د "يحيى عياش"،، وأذكر كم فرحت حين أحضر أبي الكتاب الذي أصدرته فلسطين المسلمة عن حياته.. وبدأت بقراءته..
كنت في الثامنة.. ومع ذلك حيرني من هما هذان اللذان بكى ملايين البشر لموتهما، وتسابق البعض لتسمية مواليدهم بأسمائهما، وتمحور العالم كله حول حياتهما..
لا أخفيكم، فبعد طول بحثي تعلقت بحياة الاثنين وأعجبت بصورتهما..
كنت في الثامنة.. وفي تلك الأيام ولشدة ما سلبا من تفكيري، أحسست أن هاتين الروحين المتناقضتين تجسدتا في نفسي أنا.. وشعرت وأنا الطفلة القابعة في عالم آخر، أني يمكن أن أكون أيًّا من الاثنين.. وأن علي الاختيار بين عالمين متناقضين..
لربما لن يفهم البعض حتى الآن كيف يمكن لتلك المشاعر المتناقضة أن تمتزج في إناء نفسي واحد..
ولكن ألا تذكرون ما أبدع "غسان كنفاني" في تصويره في رائعته (عائد إلى حيفا).. "لقد ولد من رحم تلك الأم طفلان كل واحد منهما عاش في عالم مختلف، وكل منهما جسد قضية اختارها بمحض إرادته بعيداً عن كل موروثه..".
ذاك ما كنت وأنا في الثامنة.. تعذبت في مخاض قضيتين.. كان عليّ أن ألدهما الاثنتين لأربي واحدة وأتبرأ من الأخرى..
ولاح فجري بين عيني حين عانيت ألم النزيف..
واخترت..
اخترت القضية التي ستجسد روحي.. وتعبر أنفاس زماني..
اخترت القضية التي ستنسج كفني.. وتشيع موكب جنازتي.. وتصنع ذاكرة تاريخي..
ترى.. هل فكرتم يوماً أي القضايا أنتم؟
إنما الإنسان قضية.. فإن غابت قضيته.. غاب كله
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.