حكايات من سوريا: يوم فقدت والدي، بيتي، و بلدي

لم أستطع قول كل شيء هنا، فلازلت أحاول ترتيب حكايتي وتجميع تفاصيلها التي لم تنته حتى اللحظة ولن تنته قريباً، ولازلت أعتقد أنّ لا حكاية مهما كانت مؤثرة وحقيقية وعاطفية، تستطيع أن تخبر كل ما حدث فعلاً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/18 الساعة 12:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/18 الساعة 12:24 بتوقيت غرينتش

تحتمل قصص هروبنا، على عجلتها وعشوائيتها وما تحمله من خوف، طرقاً كثيرة للقول، ورغم أنّ أشخاصاً عدة قد يعيشون القصة ذاتها، إلّا أنّ بدايتها ونهايتها وتفاصيلها تختلف حتماً فيما بينهم.

عرفت مؤخراً أنّ كلّاً منا، أنا وأمي وأختي الوسطى (سنا) والصغرى (غنى)، فعل الشيئ نفسه لأكثر من سنتين ونصف، فالتجأ كل ليلة إلى سرير جديد لم يعتده واتخذ السقف الغريب مسرحاً واسعاً أعاد فيه تجميع تفاصيل الحكاية وترتيبها حتى يستطيع إخبارها دون ارتجاف وبأكبر قدر ممكن من الحيادية وهو ما أحاول فعله هنا.

ولو بحثت عن بداية مشتركة لقصتنا، لكان ذلك في فجر اليوم الثاني من شهر يوليو/تموز 2013، حين غادرت أمي منزلنا في بلدة مصياف الجبلية الصغيرة نحو العاصمة دمشق، حيث كنت أقيم مع أبي الذي أرسلني قبل بضعة أيام إلى مصياف لأستشير طبيباً قد يؤكد إصابتي بـ"قلق اكتئابي" بعد نحو ثلاثة أشهر على مقتل أحد أقرب أصدقائي بقذائف النظام السوريّ.

تبادلنا الأدوار إذاً، أنا في مصياف مع أختي الصغيرة (غنى) وأمي في الطريق إلى دمشق تحمل معها ملابس قليلة وأطعمة كثيرة يحبّها أبي الذي أجبرته ملاحقة أجهزة النظام الأمنية ومضايقاتها على جعل زياراته إلى منزل العائلة في مصياف قليلة وشبه سريّة.

استيقظت على صوت الهاتف، أسمعه الآن في أذني، إنّها أمي! صوتها يرتجف، تسألني عن أبي وتطلب مني الإتصال به. لا أستطيع فهم كل شيئ، أميّز ضجيج شارع بيتنا الدمشقيّ وأفكّر، إذا كانت أمي هناك فأين أبي ولماذا تطلب مني الإتصال به! تشعر بارتباكي فتسعفني بالشرح "كلّمته قبل قليل وأخبرته أنّني سأتأخر 15 دقيقة وقال إنّه ينتظرني في المنزل، وصلت وحاولت الإتصال به ليساعدني في حمل الحقائب لكنّه لم يُجب، حاولت الإتصال مجدداً على هاتفه الخلويّ، بضع رنّات ليصبح خارج نطاق التغطية!".

كانت أمي حينذاك تعرف أكثر من ذلك بقليل، ورغم أنّ قول هذا النوع من الأمور على هواتفنا التي يراقبها النظام مخاطرة كبيرة، إلّا أنّه لا وقت لانتظار وسيلة اتصال آمنة في مثل هذا الظرف.

عرفت أمي عن طريق جارتنا الفضولية في الطابق الأرضي أنّ رجالاً يلبسون بدلات عسكرية موحدة ويحملون أسلحة كثيرة جاؤوا إلى المنزل رفقة شخص آخر لا يشبههم، سُمعت في البناء أصوات ضرب وتكسير وصراخ قبل أن ينزلوا رفقة أبي والرجل الآخر الذي لم يكن سوى صديقه المقرّب (حسام) والذي أُخبرت عائلته لاحقاً أنّه قضى تحت التعذيب في معتقلات النظام.

في ظل محاولتنا استيعاب اعتقال أبي وتقييم خطر ذلك ونتائجه، لم نملك الوقت الكافي لنحزن ونفكّر في الأمر كأم وابنتين فقدتا زوجاً وأباً شجاعاً في لحظة. كان علينا (أنا وغنى) أن نترك منزلنا في مصياف فوراً ونتجه إلى حماه، في محاولة للابتعاد ومنع النظام من الوصول إلينا واستخدامنا كوسيلة للضغط على أبي في سجنه.

لم نحمل معنا سوى ما كنا نلبس في ذلك الوقت، فحواجز النظام تملأ الطريق إلى حماه وقد يوقفنا أي منها ويرتاب في أمرنا بوجود حقائب سفر، وصلنا إلى منزل صديق لأبي لم نعرفه سابقاً، حيث استقبلتنا زوجته اللطيفة وأطفاله الثلاثة، في حين كان على أمي أن تسلك الطريق الأطول من دمشق إلى مصياف ثم إلى حماه، تحمل معها خوفاً وقلقاً وحزناً لا أستطيع تخيّله ولا تستطيع هي إظهاره.

اجتمعنا في حماه وبقينا في ذلك المنزل نحو أسبوع، قبل أن نوافق بضغط من أصدقاء أبي على مغادرة سوريا باتجاه تركيا، وهو ما كان أبي قد أوصانا به سابقاً، ليس خوفاً على نفسه، بل علينا.

كانت تلك إحدى أصعب لحظات حياتي، أنا التي حسمت أمري منذ بداية الثورة وعاهدت نفسي ألّا أخرج من سوريا تحت أية حجة، في وقت طُردت فيه من جامعتي وأُجبرت على إيقاف دراستي للصحافة والإعلام وخسرتُ أصدقاء وزملاء وأسماء وهمية لوجوه عرفتها في تظاهرات دمشق الكثيرة.

ولمغادرة البلاد، كان علينا الانتقال من سيارة إلى أخرى، ابتداء من مدينة حماه التي يسيطر عليها النظام مروراً بريفها ثم ريف إدلب الخارجين عن سيطرته، وصولاً إلى الحدود السورية التركية.

كان الطريق مجهولاً ومليئاً بالاحتمالات الكثيرة، وكان علينا أن نخفف من ذلك الخوف، فالتجأت أمي إلى الدعاء، فيما التجأنا أنا وغنى إلى الموسيقا، فابتعدنا عن أغنيات عرفناها وأحببناها سابقاً، وذهبنا إلى استذكار أخرى سمعناها مرة واحدة ولم تعجبنا فلم نحفظ كلماتها، علّها تبعد عن أذهاننا صورة أبي وصوته حين كان يردد أغنيات "فيروز وعبد الحليم وأم كلثوم".
وصلنا إلى تركيا مساءً، كانت الحدود مغلقة لكننا استطعنا الدخول قبل أن يستقبلنا شاب أرسله صديق لصديق أبي ليوصلنا إلى مدينة مرسين الساحلية التي لطالما أردنا زيارتها قبل الثورة بناء على وصف أصدقاء لنا نظّموا مجموعات ورحلات سياحية إليها وعادوا ليحدّثونا عن جمالها ولغة أهلها الغريبة.

وقبل هذا اليوم بسنوات، كانت الدارما التركية قد اقتحمت عالمنا البسيط بتقنية تصويرها ووجوه أبطالها وهندسة منازلهم وقصص حبّهم، فخلقت بيننا وبينهم علاقة خياليّة لم نكن نعرف في ذلك الوقت أنّ واقعاً صعباً سيشوهها لاحقاً.

كان بيتنا الأول في مرسين مرتفعاً، بارداً، متوسط النظافة ويطلّ على البحر، بقينا فيه نحو ثلاثة أشهر بكينا خلالها دون أن نستطيع في كلّ مرة تحديد السبب فالأسباب كثيرة والنتيجة واحدة، "أب لانعرف عنه شيئ، بيت وعائلة تركناهما دون أن نملك فرصة توديعهما، ذاكرة مثقلة بالصور والأصوات والأحلام، وغربة تسلبنا قدرتنا على الحياة".

حملنا في رحلتنا الثانية داخل مرسين بضعة أشياء اشتريناها لضرورتها وفي محاولة منا لخلق علاقة مع المدينة والمنزل والناس، انتقلنا إلى منزل آخر في المنطقة نفسها، كان أكثر دفئاً وأقل كآبة فقد أصبح لدينا أصدقاء جدد سبقونا في رحلة اللجوء هذه، حملوا عنا بعض همومنا وذكرياتنا ودفعوا بنا خطوة نحو الحياة.

ظننا بداية أن وجودنا في تركيا سيكون مؤقتاً، سيخرج أبي من سجنه ونعود نحن إلى بيتنا وبلادنا وثورتنا لنتابع ما بدأناه قبل سنتين، ولأنّ الأمر لم يكن بهذه البساطة، كان عليّ أن أجد عملاً يمكّننا من البقاء في مأمن من الخطر علماً أنني لم أخض تجربة العمل سابقاً وفي الوقت نفسه لم أملك الفرصة لأكمل دراستي الجامعية.

ساعدتني صديقة للعائلة في إيجاد فرصة في إحدى الإذاعات السورية المعارضة التي كانت في طور التأسيس آنذاك، ما اضطرني لأترك أمي وأختي مؤقتاً وأنتقل إلى مدينة أخرى هي "غازي عينتاب"، حيث بقيت ثلاثة أشهر أحاول إثبات نفسي في العمل وتأمين منزل صغير قبل أن تستطيع أمي وغنى المجيء إليّ لنعيش معاً تجربة جديدة من القلق والمواجهات والإنتظار.

نحن اليوم في "غازي عينتاب" منذ نحو سنتين، نعيش كثلاث نساء في منزل صغير كانت سنتنا الأولى فيه صعبة، متعبة، ومليئة بالألم، لتكون السنة الثانية أفضل بشكل ما، فأمي تخوض تجربة جديدة في العمل فيما لا تزال غنى تحاول التأقلم مع تغيير مدرستها وزميلاتها المستمر، متمسكة بإصرارها على العودة إلى سوريا، وهو ما نحاول أنا وأمي منذ يومنا الأول في تركيا إقناعها باستحالته وضرورة البحث وانتظار خيارات أخرى أهمها قبولنا في برنامج إعادة توطين اللاجئين في الولايات المتحدة الأميركية والذي وصلنا إليه عن طريق التقديم في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

يخبرني البعض أنني أعاني حساسية مفرطة اتجاه الكلمات، ربما، لكن حين يتعلق الأمر بوصفنا كـ"لاجئين" فإنّ ذلك أمر مختلف لا يعود إلى احساسنا بالظلم والتهميش دائماً، فلو سألت أي شخص عن تعريف "اللاجئ" أو بحثت في google لحصلت على إجابات كثيرة واقعية وقانونية وحقوقية وأحياناً إنسانية، لكنّها جميعها لا تعطي بعض ما نشهده ونعيشه ونعانيه ونشعر به -كسوريين- حقه في التعريف، وبخاصة أننا بتنا نرى اليوم أشكالاً جديدة ومبتكرة وأكثر مأساوية من اللجوء، لا تنحصر بما أقرته القوانين الدولية والمنظمات الإنسانية قبل اندلاع الثورة السورية، فلم يعد عنف النظام السوري وإجرام حلفائه غير المحدود الدافع الوحيد لمغادرة البلاد واللجوء إلى مناطق أو بلدان أخرى، فقد ساهم هؤلاء عمداً في خلق أجسام غريبة عن الشعب السوريّ وعن ثقافته وتفكيره، عملت على تشويه صورته أمام نفسه أولاً ثمّ أمام العالم قبل أن تضعه أمام احتمالات محدودة، أفضلها وأقلّها سوءاً هو الهرب من هذا الجحيم.

لم أستطع قول كل شيء هنا، فلازلت أحاول ترتيب حكايتي وتجميع تفاصيلها التي لم تنته حتى اللحظة ولن تنته قريباً، ولازلت أعتقد أنّ لا حكاية مهما كانت مؤثرة وحقيقية وعاطفية، تستطيع أن تخبر كل ما حدث فعلاً.

علّقنا في رأس السنة الفائت صوراً كثيرة على جدار البيت، جعلناها على شكل شجرة، جذورها صور أبي في شبابه، وأغصانها صور تفيض بأصواتنا وضحكاتنا وأحلامنا وطفولتنا ووجوه كثيرة لمن شاركونا لحظاتنا الأسعد.

هذه التدوينة مترجمة عن النسخة الأمريكية لـ "هافينغتون بوست". للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد