تصحيح/مدحت
في ظِلالِ ثُلاثيَّة غِرناطة "3" الجميلاتُ هُنَّ المُدهشاتُ!
مشهد عرضي
في صباح الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2014، تم تنفيذُ حكم الإعدام في مهندسة الديكور الإيرانيّة السُنِيَّة ريحانة جباري، بُتهمة قتل رجل استخبارات سابق، بعد أن رفضت المحكمة الأدلَّة التي قدمتها ريحانة لتُثبت تعرضها لمحاولها اغتصابٍ من القتيل سابق الذكر.
المُنحنَى
بالعودة إلى "سليمة" و"مريمة" بطلتي التدوينة السابقة.. تستطيعُ أن تستنتج معي أنَّ سليمة على وشك مُستقبلٍ غير عاديٍّ لفتاةٍ لم تقبلْ روحها أنْ تكون عاديَّةً، أمَّا مريمةُ فكانت تنمو شيئًا فشيئًا على تُربة بيت الزوجية الجديد بحسٍّ فُكاهيٍّ وسط صراعٍ طبيعي بينها وبين حماتها التي لها في الجبال علاماتٌ كما قال اللمبي!
في اللحظة الأولى التي تزوجت فيها سليمةُ -قبل أنْ تأتي مريمةُ الصغيرةُ بالطبع إلى البيت- لم تسمحْ سليمةُ لأحدٍ أنْ يقتحم عالمها الخاص، أو يُحاول فكَّ طلاسم هذه المرأة غريبة الأطوار التي تنسجُ ليلها كلَّ مساءٍ بمشكاةٍ تنيرُ لها عتمة الطريق إلى كُتب العطارة والدواء، وجد نفسه أمام امرأةٍ لم تقبل بالعاديِّ الذي يملأُ الروحَ كغيرها من النساء، ومع انشغاله بأعماله الفدائيَّة ضد أعداء الأندلس الجُدد، مشى كلٌ منهما في طريقه ليُؤنِس قلبه بما يستهويه.. سعد لمغامراته الفدائيَّة وسليمةُ للغرفة المغلقة والقراءة ولحظات التأمُّل الطويلة.
مريمةُ أنقذتْ طفلًا عربيًّا من جنود القشتالة!.. فعلاً؟! وكيف تمَّ ذلك؟! وقفت أمام جنود القشتالة الذين شكُّوا في أمر الطفل وتقمَّصت دور أُمٍ قشتالية ونهرت الطفل ونهته عن اللعب مع أولاد العرب كما صفعته على وجهه عدَّة صفعات حتى صدَّق الجنودُ القشتالةُ مريمة وانصرفوا عن الولد وسط دهشة وانبهار بعض المارَّة الذين يعرفونها بالتأكيد!
توالت الحكاياتُ في الحيِّ عن فُكاهة الخالة مريمة ومُغامراتها اليوميَّة مع الجنود القشتالة. تملأُ البيت بالأطفال، وتستيقظُ مع صياح دِيَكة الفجر لتطهو الطعام وتُعدَّ أغراض البيت وتبيع بعض ما لديها من بيضٍ لتُشتريَ ما يحتاجُه المنزلُ من أغراض.
تنطفِئُ سليمةُ في غُرفتها يومًا بعد يومٍ، تتعمَّقُ أكثر وأكثر في عالم العطور والأعشاب حتَّى تذيع شهرتُها في أنحاء المنطقة.. يأتي إليها المرضى فتُعاملهم بإنسانيَّةٍ نادرةٍ تجعلها آخر ما تتمسكُ بهذه الحياة الرتيبة.. تسمعُنا الآن ونحنُ نصفُها بالمُوديَّة المُتقلِّبةِ التي يصعبُ رضاها.. تبتسمُ في أسى.. ثم تسكتُ. تلتقي بسعدٍ حينما تحِنُّ عليهم الصدفة بلقاءٍ كل عام أو عامين لينجبا ابنةً لطيفة.
تأتي في الزاوية الأخرى من المشهد مريمةُ التي لم تعدْ غضَّةً، ولم تعدْ حماتُها تنهرُها، تُسيطرُ ببطءٍ -وبغير سعيٍ منها- على كل زواية في كادر البيت والحيِّ بخفَّتها ونشاطِها ومواقفها الفُكاهيَة وحكاياتها التي لا تنتهي من قصصها على الصغار خارج البيت أو داخله، حتى سليمة المُنعزلة نالت أقساطًا من اهتمام مريمة وحنانها، إذْ طالما رأتْ مريمةُ فيها السيدة الذكيَّة سيِّئة الحظ التي لم يرحمها أحدٌ ولم تفهمْها غرناطة.
تتناثرُ أخبارُ علاج سليمة بالأعشاب حتى تصل إلى السلطات القشتاليَّة، تُهاجمُ السلطات البيت وتُصادر كل ما فيه من خلطات عشبية وتوجِّهُ لها تُهمة ممارسة السحر، تفشلُ سليمةُ في درء تهمة السحر عنها أو إقناع المحققين الأعداء بالرُقية الشرعية حتى لا تقع في تُهمة إحياء العادات العربية بعدما تمَّ تنصيرُها وأهل البيازين إجباريًّا، لو فعلت حينها ستقع الطوبةُ في المعطوبة وتكتشفُ السُلطات حقيقة التنصير الوهميِّ الذي يمارسه أهل البيازين، بينما لا يزالون على إسلامهم في الخفاء.
تُحاولُ المريمةُ أنْ تُحافظ على عادات البيت في غياب سليمة؛ لعلَّها تنجحُ في ردِّ شبح الحُزن الذي بات يُخيِّمُ عليه.. عن طريق حيلها التي لا تنتهي تعرفُ أنَّ سليمةَ تُواجه مصيرها الحتميَّ أمام تعنت السلطات القشتالية التي تعاقبُ الساحرت بالإعدام شنقًا.
مشتْ سليمةُ إلى مصيرها مُستسلمةً لا تعرفُ هل سلَّمت أمرها لله ككبار المؤمنين الذين تضيئهم السكينةُ، أم أنَّها قررت ألا تهين نفسها بالصراخ والتضرع حتى لا تضيف إلى المهانة مهانةً؟! مضتْ ثابتةَ الجسد منطلقة الرُوح تتطابقُ شفتاها مع ريحانة جباري -الذي حدَّثُتك عنها في أول المقالة- ثم ردَّدتا معًا: يا كلَّ الأحبَّة.. لنْ نكون هُنا بعد اليوم؛ لأنَّ هذا العالم لمْ يفهمْنا ولمْ يُحبّنا!
تستيقظُ مريمةُ كلَّ صباحٍ لتربِّيَ أحفادها وقصصها التي لا تنتهي وحُلمها الذي لا يفارقها بقدوم المارد المُنقذُ الذي سيُخلِّصُ الأندلس من الوحل الذي وقعت فيه.. تحتضنُ بكلِّ قوتها ذلك العالم الذي أتت إليه من بعيد.. كانتْ غضَّةً وأصبحتْ مريمة!
الزاويةُ الملعونة
رُبَّما انتظر القارئ معي على مدار حلقتين مُتتابعتين من الكتابة (1) (2) ؛ ليصل إلى تلك النقطة التي وعدتُه بها منذ التدوينة الأولى..
تلك الزاوية التي قرأتُ بها مريمة وسليمة وعالم رضوى المُوجع.. ما كنتُ لأتخيَّل أنْ أقف يومًا لأقول لصديقتي القويَّة: لا أُخفيكِ أنَّ البدايات دومًا خاطفةٌ وأنَّ ما تفعلُه سليمة ومثيلاتها بالرُوح يكفيكِ أن ترِيَ انعكاسه على العيون اللامعة التي تتعاملُ معها..
العيونُ لا تنطِقُ بسُهولة.. صحيحٌ أنَّ الذكيَّات جميلاتٌ، لكنَّ هذا العالم غالبًا لا يحتملُهُن.. من فرْط جمالهنَّ يحترقْن.. الزهرواتُ اللاتي لا يجدن أرضًا مُناسبةً يذْبُلْن.. لمْ تُخطئ رضوى حين ختمت روايتها بالحديث عن القادمات من بعيد..
المُدهشات اللاتي يبنين عالمهن على مهلٍ، الخفيفاتُ بناتُ الموقف وكوميديا اللحظة.. اللائي يكبرْن وينضُجن بالسنين.. اللائي يلقفن ما يُرمى إليهن ويُحسنَّ استغلاله.. اللائي نتذكرُهُنَّ كلما قرأنا ما كتبته رضوى في ختام روايتها: "لا وحشة في قبر مريمة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.