كتبت على حائطي قبل أيام مباشرة بعد اتخاذي قرار مغادرة رواق الموقع التواصلي الاجتماعي (فيسبوك) لفترة مؤقتة عبارة "كم تفاديت هذه اللحظة التي سأغادر فيها هذا الوطن وإلى موعد لاحق بإذن الله". فما إن استفقت في الصباح من اليوم الموالي إلا وتتقاطر على هاتفي الغبي المكالمات والرسائل القصيرة لمجموعة من الأصدقاء، من جهة أولى ممن ظنوا أني غادرت تراب أرض الوطن، ويسألون عن الوطن محل وجهتي المقبلة، ومن جهة أخرى ممن فهموا المغزى من العبارة السالفة الذكر وهو مغادرتي النطاق الجغرافي لمملكة "مارك" الاجتماعية، ويسألون عن الأسباب وراء هذه الهجرة العلنية، هل هي نفس الأسباب التي وراء ارتفاع نسب الهجرة السرية للأوطان الحقيقية، أما أنَّ الأمر فقط يتعلق بأسباب شخصية.
في حقيقة الأمر لا يمكن لأحد منا أن ينكر أن هذا العالم الأزرق، لم يعد فقط ذلك العالم الافتراضي المخصص للدردشة والمحادثة، وربط صداقات جديدة وقضاء وقت الفراغ، والإعجاب بالصور والتعليق عليها، بل تعدى الأمر ذلك بكثير، وأصبح معه يكاد يرقى هذا الكيان إلى مصاف مملكة ووطن حقيقي قائم بذاته، وبنفس مكونات ذلك الوطن الذي اعتدنا العيش فيه، واعتدنا الحديث عنه في المقاهي وكتابة الأخبار عنه بالجرائد والصحف.
هذا الوطن الافتراضي، شعبه تقدر أعداده بالملايين، وتفوق بالأضعاف المضاعفة ملايين سكان دولة الصين الشعبية كدولة تضم أكبر عدد من السكان، إدارته العليا ساهرة السهر التام على شؤونه وشؤون متصفحيه ورواده الأوفياء، مهامه وأدواره تكاد نجاعتها وفعالياتها أحياناً تفوق نجاعة مهام السلطات الثلاث التي يتوفر عليها كل وطن وكل دولة، يؤثر في السلطة التشريعية، يؤدي لعزل أعضاء السلطة القضائية، يفرض إقالة مكونات السلطة التنظيمية، ومن المسجدات أن تدويناته أصبحت تُحرك بسببها الدعوى العمومية..
كيف لا نصفه بالوطن، وهو الذي تجده مأوى ومنزلاً لكل لاجئ لم ينعم بأحضان الوطن الحقيقي، وكيف لا نصفه بالوطن، وهو الذي تجده ديواناً للمظاليم ومستقبلاً لشكاياتهم وهمومهم، وكيف لا نصفه بالوطن، وهو الذي أصبح مساحة للاحتجاج والتعبير عن السخط واحتواء الاحتقان الاجتماعي الذي أفرزه الوطن الحقيقي، وكيف لا نصفه بالوطن، وهو الذي لا يكاد يمر يوم دون أن تثير انتباهك به صورة للمرضى ممن أهملتهم مستشفيات الوطن الحقيقي، وجعلتهم يلتمسون إحسان وشفقة مواطني الوطن الأزرق.
إن الدور الذي أصبحت تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي داخل الأوطان والمجتمعات، ليس بالدور الهيَن الذي يستهان به، بل أصبحت تشكل قوة ضاغطة تكاد معها تستحق وصف "سلطة خامسة"، وذلك لما تتوفر عليه من صلاحيات مشروعة تخول لها التحكم في موازين القوى، كما تخول لروادها الانتقال عبر الحدود والتعبير والتأثير دون حسيب أورقيب. الأمر الذي جعلها تصنف بكونها الظاهرة الإعلامية الأبرز في عالمنا اليوم، كونها تستقطب شريحة كبيرة من فئات المجتمع، وخاصة الشباب، باعتبارهم الفئة الأكثر تأثيراً في أي مجتمع بما يمثلونه من قوة في تشكيل وخلق رأي عام في مختلف القضايا وعلى مستوى جميع الأصعدة.
وهذا ما يتضح جليًّا يوميًّا لأي متصفح لهذه الوسائل وخاصة فيسبوك كوسيلة من هذه الوسائل التي تحظى بإقبال واسع لدى الجميع ومن مختلف الفئات، بحيث لا يمر يوم دون أن نرى مبادرات وحملات تضامنية على جميع المستويات. وهذه حسنة من حسنات هذه الوسائل التي يعد التلاحم والتكافل سمتها البارزة، والذي لو تم تنقيلها من الوطن الافتراضي إلى الوطن الحقيقي وتكريسها على أرض الواقع، لما كنا أمام العديد من المشاكل والصعوبات التي تعتري حياتنا اليومية، والتي تعد التفرقة واللاتوافق أحد أسبابها الأساسية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.