أثناء مطالعتي لصفحتي على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وجدت صديقاً لي شارك على صفحته خبراً في جريدة إلكترونية معروفة، يتحدث عن زوجة من طنطا طعنت زوجها بالسكين 17 طعنة، مصحوباً بتساؤل بسيط جداً منه، كيف للجنس اللطيف أن يقتل مُستخدِماً السكين، بـ17 طعنة؟! مما دفعني لقراءة الخبر كاملاً والبحث خلفه وتقصيه.
يذكر الخبر اعترافات الشابة الصغيرة ذات الـ20 ربيعاً للنيابة، حيث اعترفت بقتل زوجها أثناء نومه بـ17 طعنة في القلب، وتركته غارقاً في دمائه ثم ذهبت إلى أهلها، صارخةً في أبيها "قتلته يا با.. ارتحت دلوقتي؟!".
جرت عيني بين سطور الخبر لتبحث عن السبب، استشعره قلبي مما لمسته في اعترافاتها من مرارة، لأجده يقبع في نهاية الخبر، مُفصحاً عن الحقيقة، مُعريًّا الواقع الأليم، فقد اغتصبها زوجها وعاشرها بالقوة مراراً، ثم هربت إلى أهلها، فأعادوها له مرة آخرى، ليغتصبها مجدداً، ولينتهي الموقف بها قاتلة وبه مقتولاً.
ضغطت بيدي على زر التعليقات، لأجد المئات يتهمونها بالعُهر أو الخبل أو القسوة، المئات يلعنونها ويجردونها من كل صفات الإنسانية، يضعونها في مرتبة سفاحي التاريخ أمثال هتلر، ناقمين عليها، داعين الله العدل أن يُجري عليها عدله في الأرض والسماء، غير مُدركين بأن الله لو أجرى عدله عليها فعلاً لحاكم زوجها مئات المرات قبل أن يحاكمها.
أقشعرّ بدني من هول ما قرأت من تعليقات يؤمن أصحابها بأن الزوجة المُمتنعة عن الفراش ملعونة، يُلاحقها غضب الرب أينما ذهبت، وأنه لا اغتصاب في الحق، فالعلاقة بين المرء وزوجته حق شرعي، ولا حق لها، بل وتساءل أحدهم -بكل أريحية وبدون أن ينقبض قلبه أو يوخزه ضميره قبل أن يكتب ما كتب- "تقتلين زوجك لأنه أرادك يا مجرمة؟! أومال هو اتجوزك ودفع فيكي دم قلبه ليه؟ عشان تقوليله لا؟! المسلسلات والأفلام بوظت دماغ البنات خلاص"، وكأنها متاع يُباع ويُشترى.
حاولتُ الوصول إلى الكثير من الحالات التي تعرضت للاغتصاب الزوجي عن طريق أصدقائي النسويات والنسويين، فلم أجد لدى إحداهن غرضي الشافي، نظراً لصعوبة توثيق الحالات، بسبب خوفهن المستمر من الفضيحة، واتباعهن لنصائح الأهل التي لا تجلب سوى الخراب مثل "استحملي عشان العيال" أو "معندناش بنات تتطلق"، بل وعدم إدراك الكثير منهن بأنهن مُعنفات أصلاً، واقتناعهن التام بإن الإكراه في العلاقة الزوجية شيء عادي مُنتشر بين كل النساء، فيُمثلن ويتصنعن الرغبة حتى لا يُنعتن بالملعونات الناشزات، حتى تذكرت د.شريف مقدام، الطبيب النفسي والمُدون، الذي لطالما زخرت عيادته بالكثير من النساء المُتعبات نفسيًّا، اللاتي أرهقهن المجتمع وقادهن إلى حتفهن، والذي لطالما زخرت صفحته على فيسبوك بحديثه عن مثل هذه الحالات التي لا ترى حكاياتها النور، لتظل ضميراً مستتراً لا يستشفّه أحد مهما بلغت عبقريته النحوية، زائحاً عنها ستار العيب، صادماً الناس بوجود مثل هؤلاء النسوة اللاتي قُدِر لهن أن يعشن في مجتمع يراهن ناقصات عقل ودين، ويسلب منهن حياتهن على هذا الأساس.
بعثت إلى د.شريف طالبة منه العون، لينهل عليّ مما رأى من حالات، فكان نعم العون وخير المُجيب، وحدثني عن ثلاث حالات بمصائر مُختلفة، نحكي حكاياتهن فيما يلى..
الأولي هي فتاة في الـ17 من عمرها، وردة صغيرة تتفتح في جنوب الصعيد، شاء أهلها أن تتزوج قبل أن يصبح جسدها الذي ظهرت براعمه عاراً عليهم، فتزوجت وكانت أولى تجاربها مع الجنس ليلة دخلتها من خلال ممارسة عنيفة تسببت في كرهها للجنس وعدم الرغبة فيه نظراً لما عانته من آلام ورهبة خلال الممارسة العنيفة، فأخذت تتعذر وتتهرب في كل مرة، وفي كل مرة يأخذها زوجها بالعنف والقوة، أي يغتصبها.
بدأت تظهر لدى الفتاة أعراض نفسية، فأصبحت ترى وتسمع هلاوس، فأخذها أهلها لشيخ دجال لربما ينقذها مما هي فيه، ظناً منهم أن المرض النفسي يُعالج بالسحر والأحجبة، وبالطبع ساءت حالتها، فهربت إلى الإسكندرية، حيث تعيش عمتها، ليعيدها أهلها بعد ثلاثة أيام، لتتكرر الهلاوس، ولتدخل الفتاة في حالة شلل تام، أو ما يُعرف بالـ"كتاتونيا"، حيث يكون المانع الحركي الأساسي لها نفسيًّا وليس لعلة جسدية أو فسيولوجية، فأحضرها له أهل الزوج، وبعد محاولات عديدة تكلمت عما تعانيه، فأخبر أهلها بضرورة الطلاق، لكنهم لم يستمعوا إليه، ثم انقطع الاتصال بينه وبين المريضة.
أما الثانية، فقد كانت بالفعل تدرك أنها مُعنفة ومُغتصبة من قِبل زوجها، فبلغت عنها لما سببه لها من إصابات بالغة، فنصحها د.شريف بالطلاق، وفعلت، لكنها بالمقابل قررت ألا تتزوج أبداً ثانيةً، وكرهت الجنس الآخر تماماً.
والثالثة أقدمت على الانتحار أربع مرات، مع عدم وجود أسباب للانتحار لديها، هي فقط ترغب في الموت، لكن لا تعلم لماذا، وبنقاشات مُطولة معها اكتشف أنها تشعر بالمديونية لزوجها، لوقوفه بجانبها في الكثير من المواقف الصعبة، لكنه كان يغتصبها بعنف إذا رفضت معاشرته، وحين حاول أن يشرح لها أن هذا هو السبب الأساسي فيما تعانيه، انقطعت عن زيارته ظناً منها أنه مثل غيره من الأطباء النفسيين، لا يفقه شيئاً.
وبسؤالي للدكتور شريف عن النتائج النفسية الناجمة عن الاغتصاب الزوجي، قال إن أسوأ ما يحدث للمُغتصبَة هو "متلازمة قلق ما بعد الصدمات"، هذه المتلازمة تعيق الحياة وتوقفها، بل وتدفعها إلى قتل نفسها أو قتل الزوج المُغتصِب، مثل فتاة طنطا، كما أضاف أن الثقافة المجتمعية التي تنظر للمرأة على أنها مفعول به في الجنس هي السبب فيما يحدث، وأنه لا يوجد لديه أدنى بصيص من الأمل في أن يتغير هذا.
ينظر المجتمع إلى المرأة التي ترفض الجماع على أنها ناشز ملعونة، بسبب حديث نُسِب للنبي الكريم يقول فيه -فيما معناه- إن الزوجة التي تمتنع عن فراش زوجها تلعنها الملائكة، ولأن هذا هو السبب الرئيسي في اعتناق المجتمع لنظرته الحمقاء، كان لا بد لي من الوقوف على مدى صحته، فتوجهت إلى أهل العلم والفقه، الباحث الإسلامي والكاتب المعروف محمد الدويك، لأجد لديه ضالتي المنشودة..
قال أستاذ محمد إن التاريخ الديني لأي أمة هو جزء من تاريخها البشري، فالدين نص مقدس يمتزج مع الوقت بثقافة المجتمع، ومن ثم يشوب فهم الناس للدين جزء ثقافي وتاريخي كبير، بعيداً عن قدسيته، فقدسيته موجودة ودائمة لا غبار عليها، وإنما هي تلتبس بالثقافات والرغبات الشخصية في أي مجتمع.
ونظراً للميراث الذكوري المنتشر في مجتمعنا العربي، اختلط هذا الميراث بالإرث الديني، مؤثراً فيه، مُسبباً بعض الأغلاط، فالسنة النبوية لم تُدوَّن بعد وفاة الرسول قرابة الـ150 عاماً، وبدأ تدوينها في القرن الثاني الهجري، وأثّر عليها الموروث الشعبي والثقافة المحلية التي تنزع إلى الذكورية، فبطبيعة الحال دخل عليها من الأكاذيب ما لا يمت بصلة لنبينا الكريم، وإن كان قبولَ وجود أحاديث موضوعة شيء لا بد من التسليم به، فإن لدينا القرآن لنحتكم إليه، نصوصاً مقدسة منزهة عن كل نقص وأعلى في مرتبة القدسية من الحديث، فإذا نظرنا للقرآن في حكم العلاقة الشرعية بين المرء وزوجه، نجد رحمة الله ورقيه تتجلى فيها.
ذكر أستاذ محمد العديد من الأمثلة مثل قوله تعالى "خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً" (الروم 21)، إذا نظرنا إلى كلام الله هنا، نجد أنه تعالى قد خص الانتماء بالانتماء للنفس، ليس للأب أو الأم أو الوطن، بل مرتبة أعلى من الانتماء، الانتماء للذات، فالزواج هنا يتم بين نفسين، جزءين من كل، وكأنه تعالى يقول إن الزوج والزوجة قطعتان من بعضهما بعضاً، يحبان بعضهما كحبهما لنفسيهما، كما بُنيت العلاقة على المودة والرحمة والود والسكينة، فأي شيء يقبع خارج هذا الإطار من عنف وقهر وقمع وإكراه لا يجوز.
بل إن الله تعالى قد حث المؤمنين على ألا يأخذوا من زوجاتهم أموالاً إذا ما رفضن في قوله "وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" (النساء 20)، فهل العِرض أغلي من المال؟!
وقد استخدم عز وجل في قوله "فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً" (النساء 4)، التعبير عن طيب النفس، للدلالة على الإعطاء عن رضا وطيب خاطر ممزوج بمحبة.
كما قال تعالي "فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، فإذا كان الله قد تحدث عن المشاورة والتراضي بين الزوجين في القرارات الأسرية البسيطة مثل فِطام طفلهما، فما بالنا بالقرارات الكبيرة التي تخصهما مثل الجماع؟
كما أضاف أستاذ محمد الدويك إن القرآن يحترم خصوصية الإنسان ويتحدث عن علاقة الرجل بزوجته برقي شديد، فنجد الألفاظ بها تغطية وحياء لا يجرح ولا ينتهك، ولذلك شبه الله تعالى المرأة بالحرث في قوله "نساؤكم حرث لكم"، أي بالزرع والخير، وأتبع الله تعالى تشبيهه هذا بقوله "فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ" مما يعني وجود مقدمات قبل العلاقة مثل الاستئذان والنظافة الشخصية ووجود الرغبة لدى الأنثى.
فلماذا يترك المجتمع كل هذه النصوص التي ترفع من المرأة وتقدرها ويتمسكون بحديث لا نعرف مدى صحته بل ويحتمل تفسيره -إن كان صحيحاً- تأويلاً حسناً.
إن الرسول الكريم الراقي النبيل الذي يُنسب إليه مثل هذا الحديث حرم على نفسه أكل العسل حين قالت له إحدى زوجاته إن رائحة فمه كريهة بسبب أكله حين أراد تقبيلها، فأنزل فيه الله قوله "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاة أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"، فهل للرجل الذي يمتنع عن أكل الحلال حتى لا يؤذي زوجته أن يقهرها أو يغتصبها؟! بالطبع لا!
ويخلص أستاذ محمد في النهاية إلى وجود الكثير من النصوص التي تحث المرأة على الانصياع لزوجها طوعاً وكرهاً، لكنها مُلتبِسة بسبب الثقافة الذكورية وتدخل الأهواء في تفسيرها، فهل نهمل كل ما لدينا من نصوص قرآنية صريحة ونتمسك بالمشكوك فيها لتحقيق مآرب شخصية؟
إن فتاة طنطا التي ينظر إليها الجميع على أنها قاتلة ضحية قبل أن تكون جانياً، ورغم ما رأيته من ردود أفعال الناس المرعبة تجاه قضيتها، إلا أنني لم أستغربهم كثيراً، ففي بلادي يعاملون المرأة على أنها سلعة، تُباع لمن يعطي المهر الأكبر، ولمن يدفع أكثر، ويُرى الزواج على أنه دعارة مُقننة، إطار شرعي يمكن من خلاله ممارسة الجنس، وليس كجزء من رحلة الإنسان المُمتدة في الحياة، كعبادة كبرى لإعمار الأرض، وكرباط مقدس من أجل تحقيق الاستقرار والمودة والرحمة والسكينة بين المرء ونصفه الآخر، وكميثاق غليظ شاهد على أن الإنسان بكل ما فيه من دموية وجشع وأنانية ما زال قادر على أن يحب ويجعل من قلبه مُتسعاً لغيره ويعطي دون حدود.
إذا استمر المجتمع على لوم الضحية، لن يلوموا لاحقاً إلا أنفسهم.
إن كم الأدرنالين الذي يسري في عروقي جراء حوادث التحرش العادي اليومي في الشارع كان كفيلاً لأن يدفعني للانهيار، ولأن تنتابني نوبات بكاء حادة كلما هرعت إلى منزلي، ليتحول ما بداخلي لاحقاً إلى غضب وكره يعتمل في حلقي، يجعلني أنقض لا شعوريًّا بشراسة على من يقترب مني بسوء، لأدخل معه في معارك يومية غير متكافئة، تنتهي باستنزاف طاقاتي، فما بالنا بامرأة ترى في زوجها السند والأمان فيستحيل معها وحشاً يفتك بها بدافع الغريزة الحيوانية والشهوة؟!
أنتم من تبدأون القتال، تقتلوننا وتفتكون بإنسانيتنا فتدفعونا للقتل، تصنعون منا مجرمات سيكوباتيات، فأرجوكم أن تداروا سوءاتكم بصمتكم العاجز اللئيم، وحين تتحدثون عن فتاة طنطا قولوا المُغتصبَة وليس القاتلة.
ملحوظة: الحديث المشار إليه في هذه التدوينة حديث متفق عليه في البخاري ومسلم عن أبي هريرة
ويمكن الاطلاع عليه وعلى تفسيرات جهات شرعية له هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.