استيقظ الضابط الوقور مبكراً، حلق ذقنه وارتدى زيه الميري وتأنّق كعادته، وضع "البرفان" المفضل لديه، جلس على الطاولة وتناول الإفطار، غسل يديه ثم قبّل زوجته قبلة أخيرة على جبينها وخرج من المنزل متجهاً إلى عمله.
ذهب إلى سيارته المركونة أسفل العقار فوجدها غير نظيفة برّاقة كما المعتاد، نادى على بهاء، حارس العقار الذي يسكنه وقام بتعنيفه وسبّه، ثم ركب سيارته واتجه نحو العمل، كان يوماً حارًّا والشوارع مزدحمة، وأثناء سيره اعترض طريقه سائق تاكسي، فأخرج الضابط رأسه من الشباك وشتمه بأبشع الألفاظ ثم ترجّل نحو التاكسي وأمر السائق بالنزول، شعر السائق بالخوف الشديد وأخذ في الاعتذار ولكن الضابط كان عصبيًّا بشدة فجذبه من داخل التاكسي واعتدى عليه، وقال له إنه سيتركه هذه المرة فقط لأنه لم يكن يعلم من بداخل السيارة، ولكن يجب أن يتعلم الدرس أولاً، صفعه على وجهه ودفعه نحو التاكسي، استسلم السائق للأمر بشكل مخذٍ، ودخل سيارته مكسور الكرامة.
وصل الضابط إلى القسم الذي يعمل فيه، استقبال حافل يليق به، كل شيء حسب أوامر سيادته، وكل ما أمر به تم تنفيذه، دخل مكتبه وخلفه مباشرة فنجان القهوة، ارتشف قهوته مع السيجارة الصباحية بكل هدوء واستعد للعمل، لديه شباب محتجزون على ذمة قضايا يرفضون الاعتراف بها، ربما سيلجأ للأسلوب التقليدي، الكهرباء أو الضرب المبرح والتعنيف..
بين هؤلاء المحتجزين فتاتان، سيهددهما بهتك العرض والاعتداء الجنسي إذا لم تعترفا، يجب أن تخشيا على شرف العائلة، سيجعلهما تعترفان مهما كلف الأمر، أخبروه أن هؤلاء الشباب خطر على أمن البلاد وها هو يتابع مهامه الوطنية في حبسهم وانتزاع الاعترافات بالقوة، هذا الضابط معروف بإخلاصه الشديد لعمله وخوفه على البلاد والتزامه بالأوامر، لذلك دائماً ما يرسلون له معتقلي الرأي والذين أُلقي القبض عليهم في مظاهرات معارضة للنظام..
وفي أحيان أخرى يرسلونه على رأس قوة أمنية لتصفية أحد الإرهابيين في منزله دون أمر قضائي أو إذن من النيابة، هذه أمور طارئة لا يمكن تعطيلها بمثل هذه الشكليات، يعرف جيداً كيف يقتل أعداء الوطن، وكيف ينتزع الاعترافات التي يريدها من المتهمين، يعنّف المعتقلين السياسين ويمارس عليهم كافة أنواع الانتهاكات ثم يتشدق بعبارات "دولة القانون"، "الاستقرار"، "الإرهاب"، "الخيانة"، "العمالة".
في نهاية اليوم يعود إلى منزله، ويطمئن على فتاته الصغيرة، ولكن في هذا اليوم وجدها تقرأ رواية "استخدام الحياة" لأحد الروائيين الذي يُدعي "أحمد ناجي"، أمسك بالرواية وقرأ في فصلها الخامس قليلاً، فغضب وثار وقام بتمزيق الأوراق وصرخ في ابنته كيف تقرأ هذه السفالة، ومن هو هذا الروائي القذر الذي سولت له نفسه كتابة هذه القاذورات، لا بد أن يحاكم أمثال هذا الكافر الذي يحارب دين الله.
أجرى اتصالاً تليفونيًّا ثم توضأ وصلى العشاء ودعا ربه أن يوفقه في عمله وأن يسترها على أهل بيته، ذهب إلى سريره ونام بجوار زوجته، أغمض عينيه وقبل أن يغط في النوم استيقظ على صوت هاتفه، الأمناء يبلغونه أن الفتاتين ترفضان الاعتراف بالتهم حتى الآن، فيأمر بالاعتداء عليهما جسديًّا لزيادة الضغط عليهما وإجبارهما على الاعتراف، أنهى المكالمة وغاص في نومه، وفي تلك الليلة حلم بالفصل الخامس من رواية استخدام الحياة يطارده ككلب مسعور.
ثم تراءت له كافة المشاهد المذكورة في الفصل الخامس على هيئة فيلم سينمائي خدش حيائه أثناء النوم وتسبب في احتلامه، استيقظ غاضباً ونظر إلى زوجته بجواره في امتعاض، واغتسل سريعاً وتابع نومه، وبعد أيام قليلة كانت أخبار حبس أحمد ناجي تملأ الجرائد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.