الوضع الراهن للعلاقات بين روسيا والغرب ليس حرباً باردة، أو على الأقل ليس الحرب الباردة الجديدة، ولكنه يتسم برفض عميق من قِبل كلا الطرفين ليس فقط لسماع حجج الطرف الآخر، بل حتى للاعتراف بأن مثل تلك الحجج يمكن أن توُجد.
هذا ما يقوله البروفيسور في الشؤون العالمية بجامعة نيويورك، مارك جاليوتي، في مقال نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، الإثنين 14 مارس/آذار 2016.
"رُهاب روسيا"
الروس هم الأكثر فجاجة في نهجهم المُتبع، حيث يُطلقون على كل شيء لا يحبونه "رُهاب روسيا".
وفي بعض الأحيان، يشير ذلك إلى التصريحات العدائية كالتي تصدر بانتظام من قِبل القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا، الجنرال فليب بريدلوف، بشأن التهديد الوجودي الذي يمثله الدب الروسي.
حتى أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد ادّعى التجسس على "موضة رُهاب روسيا في بعض العواصم الأوروبية، على افتراض أنهم لا يرغبون في التغاضي عن العدوان الروسي ضد أوكرانيا.
وهذا ينطبق بشكل شائع على كل شيء في هذه الأيام، من الدراما وحتى كتب الأطفال.
ففي العام الماضي هاجمت وزارة الثقافة الروسية مهرجان "القناع الذهبي" المسرحي باعتباره "يدعم بشكل منهجي العروض التي تعارض بوضوح المعايير الأخلاقية، ويحرّض المجتمع ويحتوي على عناصر رُهاب روسيا"، وعلى سبيل المثال، تم سحب كتاب "أعلام العالم" من المحلات التجارية إثر زعم أحد النواب أن الكتاب (الواقعي) يدعي بأن مطالبة ليتوانيا بالاستقلال عن الحكم الروسي كانت جزءاً من رهاب روسيا.
تلك المعادلة الخرقاء بين النقد الصادق والكراهية المطلقة لكل الأشياء تُعد خبيثة وخطيرة، وتُستخدم من أجل تهميش واضطهاد الأصوات المُستقلة، وتكميم النقاشات ودعم الفكرة الأسطورية بأن روسيا مُحاصرة بعالم عدائي.
بتلك الطريقة يبدو أن عدداً كبيراً من الجنرالات الأميركيين الذين يصفون روسيا بـ"الهيستيرية" هم أفضل أصدقاء محطة "روسيا اليوم RT" الإخبارية المدعومة من الكرملين، ويستحقون على الأقل بضعة ميداليات من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
استخدام كل شيء كسلاح
في الغرب، ورغماً عن ذلك، هناك نهجٌ أكثر مكراً وأكثر إشكالية، يرى مكائد روسيا الحاقدة خلف كل انتكاس.
والمثال الأكثر وضوحاً على ذلك هو تقليد "التسليح"، فيبدو أن أي شيء وكل شيء يتم تسليحه من قِبل الكرملين.
وعلى سبيل المثال، فالمغالاة الحقيقية في العداء لموسكو التي يؤكدها الجنرال بريلوف، ويُرددها العديد بإخلاص، يتجلى في استخدام روسيا للاجئين السوريين وتحريضهم على الهجرة من أجل الضغط على أوروبا.
وبصرف النظر عن حقيقة أنه لا يبدو أن هناك دليلاً على ذلك، حيث بدأت أزمة اللاجئين على نحو واضح قبل مُشاركة روسيا.
بلا شك أن موسكو تنال بعض المزايا من ذلك، كما أن بطشها المتزايد بالحرب يتم أخذه في الحسبان بالكاد باعتباره دافعاً لفرار المواطنين من مناطق الحرب، مثل حلب؛ ولكن هذه ليست نفس الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى كل شيء بدءاً من صعود القوميين المعارضين للفيدرالية في أوروبا وحتى محاولات روسيا لتقليل اعتمادها على مصادر مالية غربية من خلال العدسات المشوهة: "استخدام كل شيء كسلاح".
وهذا بطريقة أو بأخرى يضع روسيا في طائفة الأشرار، فبالتأكيد تنال روسيا أكثر من نصيبها من فعل الأشياء السيئة، من ضم شبه جزيرة القرم، وحتى غضّ الطرف عن عمليات الاغتيال والفساد داخل البلاد، ولكن ذلك يُعد إلى حد كبير نتاجاً لطريقة الحكم، وليس للشر في حد ذاته.
ونحن لسنا مُضطرين لقبول صحة النظرة الروسية كي نقبل بأن لها منطقها الخاص الراسخ في الاعتقاد – الذي ليس دائماً على صواب تام – والذي يقول إن الغرب قد خذله ويريد منع موسكو من تحقيق ما يعتبره فلاديمير بوتين المكانة العالمية الشرعية لروسيا.
الأهم من ذلك، أنه يعكس ويشجع التحليل الضعيف؛ الذي يشير إلى أن واحداً من الأسباب التي تفسّر قوة وجاذبية هذه الاستراتيجية هو كونها عَكس الطريقة التي يسير بها العالم.
وبينما تقلّ استدامة النزاع العسكري المباشر أكثر فأكثر، فيجدر التذكُّر أنه حتى في دونباس بأوكرانيا أحجمت موسكو عن الهجوم العسكري الكامل، فهناك المزيد والمزيد من الأشكال القتالية البديلة مثل العقوبات الاقتصادية، وكما يقول المفكر العسكري كارل فون كلاوزفيتز: "الحرب هي سياسة بطريقة أخرى، ففي العالم الحديث يُصبح أي شيء تقريباً وسيلة للحرب".
السبب والنتيجة
روسيا لا تسعى لاستخدام أدواتها البديلة للتأثير على السياسة الغربية (كما يفعل الجميع)، ومع ذلك، فإن المشكلة تتجلى عندما يتم الخلط بين السبب والنتيجة.
فعلى سبيل المثال، هناك القليل جداً من الأدلة على أن حرص روسيا على تشجيع القوميين المتطرفين الأوروبيين كان له أي تأثير حقيقي على صعودهم. فبدلاً من ذلك، يعكسون الشعور بالضيق في أوروبا، من شكوك حول شرعية الاتحاد ومخاوف حول التجانس الثقافي والهجرة التي لا تخضع للسيطرة، وخرافات الحنين لأيام الماضي الجميل التي لم تكن أبداً كذلك.
من المريح للغرب أن يلقي باللوم على المؤامرات الروسية، لأنها تعفيه من الاضطرار إلى تبني نظرة أصعب وأكثر وضوحاً ونقداً للذات.
ولعل هذا هو أحد الخطوط الفاصلة الأكثر وضوحاً بين روسيا والغرب. فبصراحة من الصعب الإبقاء على أي أمل كبير بأن هذا الكرملين سيكون صادقاً مع نفسه وشعبه أو جيرانه، حيث فقد نقطة ثباته في الواقع، وذهب بعيداً واضعاً نفسه في الشرنقة نفسها للسرد الخيالي للتهديدات الخبيثة، وبدلاً من ذلك، فإنه ينعم بعالمه خاص من الحيل الطيعة التي لا نهاية لها.
والوضع الراهن يُعد جيداً للقائمين على الدعاية وتجار السلاح، فهو كذلك بالنسبة لأولئك الذين يشوّهون سمعة منافسيهم، وأولئك الذين يبحثون عن إجابات سهلة. ولكنه ليس جيداً بالنسبة لروسيا، ولا بالنسبة للغرب.
فمن السهل البسيط أن يتم التحريض ضد الوضع القائم، وهي الطريقة التي يهتم بها كل من روسيا والغرب لتأكيد موقفهم الخاص (وفضائلهم)، أكثر من اهتمامهم بالتعامل مع موقف الجهة الأخرى. والسؤال المهم هو: ما الذي يمكن القيام به؟
المقال للبروفيسور مارك جاليوتي، لدى مركز SPS للشؤون العالمية، بجامعة نيويورك، وهو زميل زائر لدى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وناشر لمدونة " In Moscow's Shadows".
المادة مُترجمة عن صحيفة "الغارديان" البريطانية، للاطلاع على النسخة الأصلية اضغط هنا.