أدى تقرير "بلومبرغ" الأخير حول سوق الاستشارات السعودية إلى صخب في أوساط المثقفين السعوديين. معظم ما يتردد هو تقريباً رفض لعمل شركات مثل "مكنزي" ومجموعة بوسطن للاستشارات.
في الحقيقة معظم ما بني عليه استياؤهم حول هذا القطاع، كان عدم معرفة عن هذه الشركات أو حقيقة عملهم. هنا سوف نبين مدى عدم صحة الكثير من الاتهامات
ونحلل ما وجد في التقرير المذكور من جهة أخرى غير تلك التي سمعناها تتردد في الفترة الأخيرة.
أولاً: نلفت الانتباه إلى أكبر مغالطة وقع فيها غالبية من علق على التقرير..
التقرير يذكر أن حجم سوق الاستشارات الإدارية في المملكة وصل إلى 1.3 مليار دولار، لكن معظم من علقوا فهموا من هذه النقطة أن مدفوعات الحكومة السعودية لهذه الشركات بلغ أكثر من مليار دولار، وهنا غفلوا عن أن تلك الشركات لديها عقود عديدة في القطاع الخاص، ليس فقط العام.
تحدث مع أي مستشار في شركة "مكنزي" أو "بيين" وسوف تجد أن الكثير من المشاريع الذي يعمل عليها هي لصالح شركات خاصة لا علاقة لها بالحكومة. حسب بعض المصادر، توزيع أعمال معظم الشركات الاستشارية 60% مشاريع حكومية و40% مشاريع قطاع خاص. من هذه النقطة يصبح عندنا تقدير أصح
وهو أن مدفوعات الحكومة السعودية إلى هذا القطاع حول 800 مليون دولار (أي أقل بـ500 مليون دولار مما ذكره المعلقين).
ثانيًا: المغالطة التي كثرت بين المعلقين هو وصف المستشارين بأنهم مجموعة من الغربيين ذوي عيون زرق، لا فهم لهم لطبيعة المجتمع السعودي، ولا اهتمام لهم عن وضع البلد.
ادخل مكتب أي من الشركات هذه وسوف تجد عدداً جيداً من السعوديين والخليجيين في الفريق الاستشاري. مكنزي وغيرها يعلمون أهمية أن يكونوا المستشارين على اطلاع بأمور البلد، لذلك منذ فترة تبنوا سياسة جبارة لتوظيف كوادر خليجية ذوي مؤهلات عالمية.
عدد كبير جدًّا من السعوديين المتخرجين من "هارفارد" و"إم آي تي" و"ستانفورد" يختارون العمل في "مكنزي" وأخواتها وأعدادهم تزيد بمعدل هائل. وهؤلاء ليسوا من أجل "السعودة" بل مستشارون مثمرون في الفريق كغيرهم من الجنسيات، بل في كثير من الأحيان يكونون أكثر أعضاء الفريق تأثيراً، نظراً لمعرفتهم الحميمة بالبلد.
بالإضافة إلى أن هذه الشركات تعمل كمراكز تدريب للمستشاريين السعوديين، بحيث تعطيهم تدريباً مهنيًّا عالميًّا يفيد البلد حينما يتركون الشركة ويدخلون في الاقتصاد السعودي بشكل مباشر (كرياديي أعمال أو مدراء حكوميين).
أما بخصوص المستشاريين الأجانب، فيذكر المهندس عبدالله السعيد (خريج MIT) أن أثناء عمله في "مكنزي" وجد أن حرصهم على نجاح المشروع على المدى الطويل يوازي حرص المستشارين السعوديين الذين يعملون المشروع، غير أن هذه الشركات سمعتها في السوق (والذي يعد عاملاً أساسيًّا لنجاحها) يعتمد على رضاء العميل حول النتائج بعد الانتهاء من المشروع؛ لذلك لديهم حافز قوي بتسليم منتجات عالية الجودة.
***
بعد الانتهاء من توضيح المغالطات التي وقع فيها منتقدو هذه الشركات، نبدأ الآن بمواجهة بعض الحجج المطروحة ضد قطاع الاستشارات الإدارية، والتي أبرزها حول "التكلفة الباهظة". مثل ما ذكرنا سابقاً، في الحقيقة مدفوعات الحكومة "لمكنزي" وغيرها لا يتجاوز 800 مليون دولار سنويًّا. في عام 2015م، حجم الميزانية كان تقريباً 260 مليار دولار. أي أن التكلفة "الباهظة" للاستشارات هذه تمثل فقط 0.3% من حجم مدفوعات السعودية.
إذا كانت قيمة مجموع عقود الدولة في هذا القطاع يمثل ثلث واحد بالمئة، فأجده مضحكاً أن يُقال إن هذا أمر لا بد أن نقلل منه لكي نوفر أو أنه باهظ الثمن.
لكن دعونا نتجاهل الثمن الرخيص جدًّا نسبيًّا (مقارنة ببقية تكاليف الدولة)، لننظر إلى فائدة هذه الشركات على القطاع العام. لنسأل: ماذا تقدم حقًّا هذه الشركات حقًّا؟ هنا سوف أتحدث من خبرتي الشخصية في العمل مع شركات استشارات من جهة الحكومة (حيث عملت في وزارتين مختلفتين خلال السنتين الماضية).
أولاً: هذه الشركات تقدم قاعدة معلومات هائلة، حيث توظف خبراء عالميين في شتى المجالات، ولديها قواعد بيانات خاصة بهم، تساعد بشكل هائل في فترة التخطيط وتكوين الاستراتجية.
ثانياً: هذه الشركات متخصصة في مجال "حل المشاكل"، ولذلك لهم خبرة جبارة في مواجهة عقبات أمام التخطيط يكون من الصعب جدًّا على موظفي الحكومة مواجهاتها.
ثالثًا وأخيراً: "السرعة".. معظم مشاريع الاستشارة، التي في العادة تكون على شكل دراسات لخطط تنفيذية، تنتهي خلال شهرين فقط، وذلك بسبب الانتاجية العالية للمستشاريين. في العادة يداوم المستشار في شركة مثل مكنزي من الساعة السابعة صباحاً حتى العاشرة مساءً. لو وكل عملهم إلى موظفي القطاع العام التقليديين، سوف تستغرق الدراسة أضعاف الوقت للإنجاز (وغالباً سوف يكون بجودة أقل).
أمر آخر لا بد ذكره هو أن هذه الشركات استشارية في الإدارة، يتركزون على التخطيط والاستراتجية. لذلك لا يمكن كما يقترح البعض بأن نستبدلهم بأساتذة الجامعات السعوديين الذين خبرتهم هي مجالهم الدقيق وليس في الإدارة بشكل عام.
نقطة لا بد تذكر أن الشركات الاستشارية العالمية لا تعمل على مبدأ أنهم أفواه لأصحاب الشأن. لن تقوم بإعطاء استشارة تظن أن العميل يريدها إذا كانت تؤمن أنها ليست الاستشارة الصحيحة.
سمعة الشركة مرتبطة بنجاح المشروع، ولذلك لن يقوموا بمجاملة وزير بإعادة ما يريدهم أن يرددوه. هذه النقطة تعد من أهم أسباب حاجة الحكومة لتلك الشركات، فهي تقوم بدور المحايد الذي حقًّا يفحص خطط الوزارات ويزودهم بالحقيقة المرة في حالة أنها تبدو غير صالحة.
ما عليكم سوى مواجهة واقع ازدياد حجم السوق، لتروا أنه في الحقيقة، تلك الشركات تجلب منفعة فعلية للبلد. الوزراء ورؤساء الشركات ليسوا أغبياء لكي يشتروا منتجًا غير فعال مراراً و تكراراً. ازدياد حجم السوق يثبت أن من تعامل مع تلك الشركات رأى من ورائها منفعة تغطي حجم التكلفة.
بل هذا الرأي في معظم العالم المتطور، حيث شركات مثل "مكنزي" تعتبر شركاء في التخطيط لحكومات الدول المتقدمة كالولايات المتحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبية. وعلى الصعيد المحلي، أنجح وزارتين حالياً في المملكة، العمل والتجارة، يعتبرون من أكبر عملاء هذا القطاع مقارنة ببقية الوزارات.
فعلاً قد ينسب بعض نجاح الوزير عادل الفقيه بعد تسلمه الوزارة من الوزير غازي القصيبي إلى اعتماد الفقيه على استعمال شركات الاستشارة الإدارية بكثافة.
لكل هذه الأسباب، معظم ما يقال عن هذا القطاع بأنه عديم الفائدة أو لا يستاهل التكلفة عديمة الأساس مبنية على فهم خاطئ. هنالك الكثير من العيوب في هذه الشركات وأمور تستأهل النقد، لكن قليلاً من تحدث عن عيوبها الفعلية ومعظم الناقدين ركزوا على كاريكاتير وليس على أرض الواقع.
التخطيط وتكوين الإستراتجية تعد من أهم خطوات نجاح أي مشروع؛ ولذلك حِرْصُ الحكومة على أن يكون القائمون عليها لديهم مؤهلات عالمية، يعد خطوة أساسية للتحول إلى اقتصاد مثمر. جميعنا قد واجهنا مشاكل بسبب أن مشروعاً حكوميًّا لم يدرس بشكل جيد، (ما عليك سوى النظر إلى بعض شوارع الرياض لتعرف ما أعني) وإذا الحكومة تصرف فقط 0.3% من مالها على التخطيط، فهذا أمر حميد برأيي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.