عندما تخلى مبارك عن الحكم وأدار المجلس العسكري شئون البلاد، وكنا قد ائتمنَّا المجلس العسكري على مطالب الثورة ووعد بتنفيذها. وكان الميدان وقتها في عنفوانة وطهارتة وسلميتة وقوتة. وبدون أي ضمانات تركنا الميدان وعاد كل منا إلى حال سبيلة.
ذهبنا نحكي ونسرد حكايات وحكايات عن ثمانية عشر يوماً عشناها في الميدان، كما كنا رائعين في تنفيذ مبتغانا. كيف تطورت مطالبنا مع تغير سير الأحداث؟
لقد سقط النظام وقت أن هتفنا "عيش.. حرية.. كرامة انسانية"، وصرخنا بأعلى صوت "الشعب يريد إسقاط النظام".
وهذا ما فهمناه خطأً، فسقوط مبارك ليس سقوط دولته الفاشلة، إنما ظلوا قابعين يحكمون ويتحكمون. تم حل الحزب الوطني بقرار من المحكمة. ولم يتم عزل سياسي لرموز دولتة البغيضة ولم تحاكمهم ثورة أطاحت بكبيرهم واستمرت الأحداث ونحن لا ندري ما يحمله الغد لنا إنما نحن نعيش زهوة نصر مؤقت.
كنا نفرح بمكسب بسيط في أعينهم ونراه كبيراً في أعينا، فهل لم نكن نتوقع أن نزيح هذا الفرعون وجلادية؟
ارتضينا أن يحاكموا أمام القاضي الطبيعي، والذي يحكم بأدلة ومستندات، ولم يحاكموا سياسيًّا بفعل ثورة أطاحت بهم. ولم يحاكموا على أفعالهم البغيضة طوال عقود من قتل للمصريين وفساد في كل المناحي.
فقد تم تقويض الثورة يوم 12 فبراير/شباط 2011، وأصبحت في عداد المفقودين، ورغم ذلك جلسنا نتغنى بما ليس فينا وصدّقنا أنفسنا أننا انتصرنا.
وكانت قمة الخسارة يوم استفتاء مارس، فقد كان ذلك الاستفتاء بداية السقوط إلى الهاوية، لم نستطيع أن نلملم وحدتنا مرة أخرى. وأصبحنا كقطع الشطرنج هناك من يحركها على الطاولة كيفما شاء.
أتذكر وقت أن طلبت من زوجتي أن نصطحب أولانا الثلاثة الصغار معنا إلى الميدان، وقبل تنحي مبارك؛ ليكون هناك ما نحكية لهم وقت الانتصار، وعندما يصيرون كباراً يفتخرون أنهم كانوا هنا في الميدان يعيشون التاريخ ويرون صانعية. كنت أنظر إلى "عاليا" ابنتي التي لم تتعدَ شهوراً، وأخاطبها بما سوف يحدث وأعلنها بتطورات الأحداث، وهي تنظر إلي بكل براءة مصدقة كل حديثي. كم كنت أتلهف إلى أن تكبر حتى تعيش الحلم الذي كنا فيه، وهو حقيقة وتفتخر بوالدها الذي كان وسط الميدان.
هتفنا "يسقط النظام".. وسقط. وتوالت الأحداث وهتفنا "يسقط يسقط حكم العسكر"، وقبلها قلنا "الشعب والجيش إيد واحدة"، ولكن كانت الأحداث متلاحقة تقذف بنا ونحن نعيش في شتات وتفرقة وانقسام، بل وتناحر غابت وحدتنا ووهنت قوتنا وبات من الممكن كسر شوكتنا بكل يسر وسهولة.
وأصبح الشباب الطاهر خائناً وعميلاً، ويسعى إلى هدم الدولة، وسعت الجحافل الإعلامية تصنع تلك الغضبة على هؤلاء الشباب الذي خرج بصدره العاري ويقول "سلمية.. سلمية"، و"عيش.. حرية.. كرامة إنسانية".. أصبح ممولاً وعميلاً بل وخائناً وبلطجيًّا.
توالت المظاهرات والاحتجاجات على تردي الوضع والنتيجة شهداء ومصابون فقط.
غاب صوت العقل وأصبح الاندفاع سمة الثائرين وغلبت المصلحة والانتهازية على المنتفعين، سواء من تكتلات حزبية أو نخب مصطنعة منتفعة. الكل يثرثر بما يريد وحسب مصالحه وفقط، وغاب الوطن ومصالحة.
وبقي أمل في قلوب البعض من الشباب، ولكنه كان إما معتقلاً في سجونهم أو مهدداً في دروبها من مواطنيهم الشرفاء أو محبط في جنباتها من تردي قرارتهم فهم يستدعون قانونهم وقت الحاجة ويعلبونة وقت ما يشاءون.
كنا نبحث عن وطن نصنع له مجداً، بعد أن أفقدوه بريقة ومكانتة بفسادهم. وكانت ثورتنا هي الحلم ولكنهم سرقوها تآمروا عليها وتكالبوا علينا حتى أضعفونا.
وبعد أن هتفنا "يسقط حكم العسكر"، هتفنا مجددا "يسقط يسقط حكم المرشد"، وذلك طوال عام من التردي والمحاباة، فانقسم المجتمع وهجر الزوج زوجتة والأب طرد ابنه والابن فجر في الخصومة مع أبيه وأخيه، وتشتت المجتمع أكثر مما كان وما زال يعيش في تلك الحالة من الاستقطاب والانقسام، فكيف يكون البناء؟
خمس سنوات مرت على ثورة يناير وما زالت تهاجَم وتحاكَم، ويتم تحميلها سوء الوضع الذي نحياه برغم أنها لم تحكم بعد ثم صنع لها امتداد 30 يونيو حتى تتلاشي يناير تماماً مع أنهم في دستور ما بعد يونيو تم تمجيدها، ولكن على الورق، إنما عقولهم وقلوبهم يرفضونها.
ولكن علينا أن نعترف أننا السبب في ذلك التردي والتقويض للثورة، بل اغتيالها وبأيدٍ من شبابها. فقد انقسمنا على أنفسنا وارتضينا بالفتات الذي كان يأتي بعد كل مظاهرة، حتى تم شراء النفوس حتى كانت ملكاً لهم. ووقعنا في أيدي جماعة تتاجر بالدين وبكل شيء، من أجل نرجسيتها وبغيتها وفي براثن نخب مثرثرة تتمتع بالأنانية والنرجسية وإعلام بغيض سيطرت مصالح مالكيه على قمة أهدافنا. لم نكسب من وراء ذلك التشرذم سوى عبارات الخيانة والعمالة. حتى الفرصة الوحيدة التي ناشدت فيها من يتكلمون باسم الثورة ليل نهار، وكان ذلك أثناء الانتخابات الرئاسية الأولى أن يتوافقوا على مرشح واحد ليقف في وجة النظام السابق والجماعة الباغية، ولكن فشلوا وكتب للثورة أن تظل في غرفة العناية تعاني المرض والوهن.
فعذراً "عاليا" ابنتي.. لم يعد هناك ما أفتخر به لك من بقايا ثورة لم تكتمل سوى ذكريات ثمانية عشر يوماً صنعنا فيها تاريخا جديدا، ولكن تكالب السحرة والفاسدون والمنتفعون علينا، وأصبح كل الرفاق إما مشرداً أو محبطاً أو مهدداً أو سجيناً، ومن بقي منهم يعيش على أمل أن يأتي يوم لنكمل صيحتنا حتى النهاية.
وفي هذه المرة لن نرحل من الميدان، وسنظل قابعين حتى نحقق كل مطالبنا وبأنفسنا لن نعتمد على أحد فالسلطة للشعب.. والشعب مصدر السلطات، وإلى هذا الحين سنظل نعيش الأمل والحلم حتى يكون واقعاً..
الثورة مستمرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.