صادفت أحدهم يوماً على تويتر، يغرد هنا وهناك كرهاً وتطرفاً، يُكبر لموت ثلة من الناس، ويهلل لتفجير "كفار" آخرين في بلاد المسلمين ومن المسلمين، فدعوت له بأن يكفي الله شرور نفسه عن الأبرياء، فاتهمني خلال دقائق بأنني وثني!
هالني ما رأيت! كيف لشخص لا يعرف الآخر أساساً إلا من خلال شاشة، ولم يجر بينهما حوار إلا ببضع كلمات، أن يهبّ بهذه السرعة لقدحه وطعنه في عقيدته؟!
لعل هذه الحوادث أصبحت مألوفة لنا بشكل كبير، ويكفي لأحدنا فقط أن يتصفح أي نقاش يدور على وسائل التواصل الاجتماعي، ليرى مدى التناحر والتضاد في الآراء، اللذين يصلا في كثير من الأحيان حدّ قدح الآخر في أخلاقه، أو في عرضه، أو حتى اتهامه بالكفر تارة، وفي الانصياع للتمويلات الخارجية الماسونية الإمبريالية الخارقة تارة أخرى.
ربّما قبل سنوات عدة، وقبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، لم نكن نصادف هذا الكمّ من السجالات، حيث كانت الأدوات الإعلامية محصورة على الورقية والمتلفزة منها. ولكن، بعد الاتساع الكبير في استخدام وسائل التواصل وهبوب نسائم الربيع العربي، وما فجرته من تحول جذري وفوضوي لشعوب رضخت تحت وطأة أنظمة شمولية، برز شكل جديد وغير مألوف من خطاب التخوين والإقصاء والتجريح بين مختلف الأطياف السياسية والشعبية، بل وازداد المشهد تطرّفاً حتى وصل إلى حد إيجاز القتل لمن يخالفنا الرأي، أو التوجه، أو حتى الرؤية، واصبح المجادلون يمتهنون بحرفية ثقافة الإقصاء، واحتكار الحق وحده، بل وبصورة مطلقة، ليجعل غيره في دقائق معدودة في دائرة الخيانة، أو الكفر، أو الردة.
بنظرة تحليلية شخصية، أستطيع القول إن ما نواجهه من غياب لثقافة الاختلاف، وما أفرزته من تناحرات على الأرض بعد سلسلة التحولات السياسية الأخيرة، هو نتاج سنوات من الإغراق الإعلامي الموجه، حيث لم يكن للمواطن العربي من مصدر لأخباره سوى ما أريد له أن يراه، وما رُسم وجمّل له ليعتاش عليه، حتى أضحى تفكيره مبنيًّا على لبنات وضعها إعلام فاسد، صنع أوهام نظريات المؤامرة في تكوين العقل العربي، حتى أصبح أحدهم على استعداد تام لتصديق ما عجزت عن صنعه الأفلام الهوليودية.
وعلى الجانب الآخر، فإن ما عاشه المواطن العربي في وطأة دائرة الفساد والإفساد، وانعدام ثقافة التكافؤ، بحيث أضحى سقف آماله لا يتجاوز لقمة العيش، والحصول على أدنى ما رسمه من طموحاته، قد ولّد لديه نظرة احتقان ورؤية عكسية، وشعور بالنقمة حتى على الأرض التي يعيش عليها، وساهم بشكل كبير في تكوين ثقافة التطرف، التي إن لم تجد عند الشخص القدر الكافي من الوعي والثقافة ستحل حتماً محل ثقافة الاعتدال والاستقامة.
نتيجة لذلك، فقد أصبحنا نرى بشكل جلي نوعين من الطروحات، طرح يؤمن بثقافة التخوين لكل من يطالب في الإصلاح، بدعوى أنه سبب بالفوضى، متأثراً بالآلة الإعلامية التي تصور أن كل مصلح هو ذو أجندة خارجية تريد الفساد والإفساد للوطن. وطرح آخر يرفع راية الحق الأوحد "بوجهة نظره" ويريد أن يقاتل الجميع بالسيف، تحت مسمى الإصلاح.
ومن هنا، أرى أن الحاجة ملحة لتجديد الخطاب الإعلامي، وأن فرصتنا لبناء أوطاننا تبدأ أولاً بالفكر، وتعزيز ثقافة أن الأمن يبدأ أولاً بمحاربة منابع الجهل، وأن الثورة بالدرجة الأولى هي ثورة مصطلحات ومفاهيم، يجب أن يعاد فيها تعريف كثير من المصطلحات النسبية كـ"الارهاب"، و"الأجندات"، و"الإصلاح"، بل وحتى إعادة تعريف "الوطن"، تلك التعاريف التي أصبحت مداخل مغرية للتلاعب بمستقبل الشعوب، واستخدمها الكثيرون لتمرير أسوأ أنواع الأجندات.
ولا بد أن نعي، بأن حاجتنا لتغيير واقع أوطاننا الاقتصادي والسياسي والتنموي، لم ولن ينفصل بطبيعة الحال عن الحاجة لتغيير فكرنا ونظرتنا لواقعنا، وترسيخ ثقافة التعايش، والنظر بعين الآخر، وتجسيد واقع أننا جميعاً في سفينة من خرقها فقد أغرق جميع أهلها. ومن لم يتعظ بغيره وعظ الله به غيره!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.