عن الأقلية المتهمة بالإنطواء والخجل !

أريد التأكيد على أن للشخصية الإنطوائية مميزاتها ونقاط قوتها .. كما للشخصية الإجتماعية مميزاتها ونقاط قوتها .. فلنتقبل هذا الإختلاف بعين تبحث عن فرص التكامل لا التعصب وفرض الرأي وليكن لنا في نموذج التكامل الناجح بين ستيف جوبز وستيف وزنياك مؤسسا شركة آبل أسوة حسنة !

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/11 الساعة 00:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/11 الساعة 00:25 بتوقيت غرينتش


لا أعرف عن الصغير يوسف أكثر من المكتوب أعلاه لكني أؤكد لكم أنه من الأقلية التي لا تتعدى نسبتها 25% من المجتمع وتصنف كشخصيات إنطوائية .. ومن أبرز سماتها أنها تفكر وتعرض مشاكلها بهدوء وبلا دراما .. أقول ذلك بمنتهى الثقة لأني واحدة منهم .. ومررت بمواقف مماثلة .. لم يُسمع صوتي وإعتراضي جيداً .. لأني لا أتقن الصراخ والميلودراما .. ولا أنسى تعليق لأحد مدرائي السابقين بعد وقوع كارثة كنت قد حذرته منها .. وبرغم النقاش المطول والموثق في إيميلات عديدة .. لامني بكل بساطة قائلاً : "عندما أكون على وشك السقوط في حفرة واجبك أن تجذبيني بعنف وتصرخي في وجهي لا أن ترسلي لي تحذير من الوقوع في الحفرة" .. آه والله قال كده! .. ألا يشبه ذلك تماماً ما قالته خالة يوسف وخلاصته: "متوجعش دماغنا بالأفكار والمنطق وكن طبيعي وصرخ" !

من سمات الشخصية الإنطوائية الأساسية الهدوء في عالم لا يعترف إلا بالصخب والصوت العالي ويضعهما في مكانة تفوق مكانة الفكر !

كلنا نعرف "ستيف جوبز" بأنه الرجل العظيم مخترع آبل .. والحقيقة أن "ستيف وزنياك" هو المخترع الحقيقي لأول جهاز آبل في عام 1975 .. ثم شاركه ستيف جوبز صاحب الشخصية الإجتماعية ليؤسسا سوياً شركة آبل ..و بفضل شخصية جوبز الصاخبة "أنصت" العالم لأفكار الإنطوائي "وزنياك" .. وحتى اليوم ترتبط آبل في أذهان الناس بإسم "ستيف جوبز" البارع في التحدث أكثر مما ترتبط بوزنياك صاحب الفكرة والإختراع !

هذا مثال بسيط لما يعانيه الإنطوائيون كأقلية وسط أغلبية تفرض رأيها وسلوكها مدعية أنه " السلوك الطبيعي" أو "الصواب" وما عداه "خطأ" و "شاذ" .. ويجب تغييره !

أول التحديات التي تواجه الإنطوائيين الضغوط من أبائهم لشعورهم بالقلق من "غرابة" سلوكيات أبنائهم مقارنة بمعايير المجتمع وتصورهم أنهم يعانون من "قصور" في المهارات الإجتماعية .. ثم يلي ذلك ضغوط المدرسة التي ترفع للأباء والأبناء على حد سواء الكروت الحمراء وعلامات التحذير معلنة أن الأبن "غير إجتماعي" أو "منطوي" ولابد من "معالجته" !

فهل فعلاً الشخصية الإنطوائية تحتاج لتغيير سلوكها ؟

لأني مهتمة بصفة شخصية بالأمر بحثت عن الإجابة ووجدت نتائج دراسات وأبحاث عديدة من جامعات مختلفة تثبت أن تصرفات الإنطوائيين هي نتاج تركيبة شخصية مختلفة وأن هناك إختلافات جوهرية في طريقة عمل مخ الشخصية الانطوائية عن الشخصية الإجتماعية .. وأن الشخص الإجتماعي يعمل جهازه العصبي بصورة أفضل عندما يفرز جسده هرمون "الدوبامين" بينما الشخص الإنطوائي يعمل جهازه العصبي بطريقة أفضل عندما يقل إفراز هرمون الدوبامين .. إذاً هناك إختلاف وظيفي وكيمائي والأمر ليس مجرد سلوك أو مهارة يجب تعديلها أو صقلها!

هناك سوء فهم لسلوك وطباع الإنطوائيين سأحاول شرحها وتوضيحها فيما يلي :

يشاع أن الإنطوائيون لا يحبون الكلام .. الحقيقة أن ماكينة الحوار عندنا لا تعمل إلا بوقود الإهتمام .. إذا كان الموضوع يهمنا سنتكلم ساعات وساعات بلا إنقطاع .. أما مواضيع الدردشة والتسالي فلا طاقة لنا بها ونعجز عن المشاركة فيها ..

يظن الناس أن الإنطوائيون خجولون .. غير صحيح .. فالإنسان الخجول يرغب في التواصل ويعجز عنه لأنه يهابه أو لا يملك مهاراته .. أما الإنطوائي فلا تنقصه المهارة لكن قد ينقصه الدافع .. بمعنى أن تواصله إنتقائي .. يختار متي يتواصل ولا يكون تواصله إلا لهدف واضح ومرة أخرى أكرر لا نعتبر التسلية والدردشة هدف! ..

لذلك من العادي جداً أنا تراني ملء السمع والبصر ألقي محاضرة لعدة ساعات بمنتهى الحماس والحضور والتأثير في مدرج به مئات من الطلبة .. ثم تراني بعدها "مبلمة" ولا أنطق جملتين على بعض في حفلة أو فرح أو أي مناسبة إجتماعية .. أنظر في ساعتي كل خمس دقائق على أمل أن يكون قد مر من الوقت ما يكفي لأعتبر نفسي قد أديت الواجب الإجتماعي وأنصرف !

يظن الناس أن الإنطوائيون "براويين" لا يحبون الناس .. بالعكس نحن نهتم بصدق وأكثر من المعتاد! .. لا نعرف الإهتمام الكاذب أو المجامل أو "اللايت" .. لا أستطيع أن أقول لكل واحدة أقابلها: "يا حبيبتي ويا قلبي" أو "وحشتيني"!! كما تفعل معظم النساء إلا إذا كان هذا شعوري فعلاً !

لا أستطيع سؤال أحد حد: "عامل ايه؟" إلا لو كان هناك سبب للسؤال وعندي إهتمام حقيقي بالإجابة .. وأسمع بإنصات وحضور ذهني وروحي .. وعقلي يبحث عن حل لمشكلته أو يشاركه بصدق سعادته بنجاح يحكيه .. ولا يقتصر الأمر على ما يقال .. أقرأ ما بين السطور ..

وما يقوله الشخص بنبرة صوته وعينيه ولفتاته وزلات لسانه .. أرى لمحة الحزن العابرة وهو يروي قصة نجاح .. أو شبح الإبتسامة في موقف محزن .. يُجمع عقلي كل هذه التفاصيل ويحللها ويصل الخيوط ببعضها .. الأمر ببساطة إما أنك في دائرة إهتمامنا المكثف المحدودة العدد أو خارجها .. مع كامل الإحترام !

يظن الناس أن الإنطوائيون يخشون الظهور والأضواء .. غير صحيح أذكر بعد 6 شهور من بداية حياتي العملية حضرت إجتماع مع عشرات من زملائي ورؤسائي وكان على رأسه رئيس قطاع وبدرجة وكيل وزارة وكان في منتهى الثورة والغضب لقصور في تقديم تقارير مطلوبة .. ولم يكن الموضوع يمس وظيفتي مباشرة .. ومع ذلك وقفت وتحدثت – للمرة الأولى منذ تعييني – بشجاعة ووضوح وشرحت أسباب القصور برغم أني أصغر الحاضرين سناً ووظيفة وكان الفضل في فهمي للمشكلة وأسبابها هو شخصيتي الإنطوائية التي إستوعبت الكثير من المعلومات المهمة وحللت العيوب ولم تُستهلك في إجتماعات شلة الافطار اليومي أوالنميمة في الموضة والطبيخ .. سمعني الرجل وأخذ قرارات وخطوات تصحيحية بناءً على كلامي وكان لذلك أثره على سير العمل وعلى تقدمي العملي ..

الخلاصة نحن لا نحب الظهور لمجرد الظهور في حد ذاته كما يهوي معظم الناس ويتحينون الفرص لحكي أي كلام لإثبات حضورهم !.. نظهر عندما تكون هناك ضرورة ومشاركة ذات قيمة حقيقية .. وعندها نلفت الأنظار إلينا عن جدارة ونقابل بالإعجاب الممتزج بالدهشة في معظم الأحيان!

يفضل الإنطوائيون العزلة .. لأننا نفكر كثيراُ ونحلل كثيراً.. وهناك عواصف ذهنية في رؤوسنا طوال الوقت .. نحتاج من وقت إلى آخر إلى الإبتعاد عن كل شيء حتى نسترد طاقتنا .. فالعزلة هي ملاذنا من صخب الدنيا عندما نشعر بالإرهاق !

الإنطوائيون يحبون الوحدة .. الوحدة قرينة العزلة ومع ذلك هناك شخص أوإثنان نحتاج منهم إشارات المساندة وتكون كافية جداً لدعمنا.. بصفة عامة لا نحتاج ل"بيبي سييتر" .. ولا جلسات مطولة من "السيكوثيرابي" – العلاج النفسي- من الأهل والأصدقاء .. كما يحتاج معظم الناس في الأزمات ..

ا"لإنطوائيون لا يعرفون كيف يستمتعون بالحياة!" .. لا والله نعرف ونستمتع بالحياة ! .. لكن بأشياء تصنفها الأغلبية بأنها مملة أو "أولدفاشون" – موضة قديمة-! كالقراءة .. والكتابة .. والرسم .. والموسيقى .. بجلسة عند الغروب أو الفجر على شاطيء يخلوا من الزحام والإزعاج .. بالسير وحدنا أوبصحبة شخص يفهمنا في أماكن طبيعية مفتوحة .. بالسفر إلى أماكن لا يعرفنا فيها أحد .. فنكون مع الناس ولسنا معهم في ذات الوقت! .. العوامل المشتركة في كل ما سبق أنها أنشطة توفر لنا "الهدوء" .. "مسافة مع الناس نتحكم فيها" .."العزلة" !

أكتب كل ذلك لأعرف الناس بنا نحن المختلفون .. الإنطوائيون .. "البراويون" !

أكتب لأخاطب يوسف الذي لا يتقن الميلودراما .. وإبني الأكبر الذي بدأ رحلة المعاناة لإختلاف طباعه عن أقرانه .. نعم أنتم مختلفون لأنكم مميزون .. فلا تتأثروا بأراء الناس السطحية .. نعم وفق الإحصائيات أنتم الأقلية بين العوام من الناس لكنكم وفق نفس الإحصائيات الأغلبية بين المفكرين والمخترعين وكبار الفنانين ومن غيروا وجه العالم ..

أكتب لأقول لمن يرى طباعنا عيوباً أن منا "أينشتين"، "نيوتن"، "لاري بيج" مؤسس جوجل .. "مارك زكربرج" مؤسس "فيسبوك" .. "بيل جيتس" مؤسس ميكروسوفت .. "ماريسا ماير" رئيسة مجلس إدارة ياهو، "غاندي"، "روزا بارك" رائدة حقوق الإنسان .. "أفلاطون" .. "أرسطو" .. "كانط" .. "ديكارت" .. "أنجلينا جولي" .. "مانديلا" .. وأغلبية المشاهير في كل المجالات بإستثناء السياسة لأسباب أظنها واضحة بعد كل الشرح السابق لسمات الشخصية الإنطوائية!

لا يعقل بعد كل ذلك أن تكون الشخصية الإنطوائية شخصية ناقصة أو معيبة .. بالعكس سماتها الإنطوائية هي سر الإنجاز والتفوق في مجالات عديدة لا تجدي فيها سمات الشخصية الإجتماعية نفعاً!

ولا أقصد بهذا الكلام التقليل من الشخصية الإجتماعية .. لكن أريد التأكيد على أن للشخصية الإنطوائية مميزاتها ونقاط قوتها .. كما للشخصية الإجتماعية مميزاتها ونقاط قوتها .. فلنتقبل هذا الإختلاف بعين تبحث عن فرص التكامل لا التعصب وفرض الرأي وليكن لنا في نموذج التكامل الناجح بين ستيف جوبز وستيف وزنياك مؤسسا شركة آبل أسوة حسنة !

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد