يحمل لنا الكاتب الإيرلندي صموئيل بيكت في طيات عمله الجدلي "في إنتظار غودو" (Waiting for Godot) صوراً لا متناهية عن عبثية الحياة وسوداوية الواقع والصراع اللامتناهي بين المنطق واللامنطق وما يكتنفهما من سخرية بلهاء تنعكس بشكلٍ جليّ على مجريات رحلة الإنتظار اللعينة تلك، والتي عاشها بطلا قصته "استراجون" و "فلاديمير" بكل ما فيها من عذابات وقهر وصراع مع الذات والوقت والمكان والقدرة البشرية على فهم المبهم، لتشعر لوهلة وحتى بعد انتهائك من قراءة المسرحية أنهما لا يزالان ينتظران هناك على قارعة ذاك الطريق الموحش بجانب تلك الشجرة النحيلة المتهالكة والتي تنتظر هي بدورها أيضاً خلاصاً ما.
لكن السؤال الذي نهش عقول النقاد والمفكرين وأهلك أقلامهم وأثقلّ كاهل العديد من الصفحات هو من يكون ذاك الـــ Godot؟؟ أهو الخلاص أم السعادة أم الهلاك أم الفراغ أم الأمل أم الوهم أم الموت أم اللاشيء؟
ودون أدنى شك بأنه لم يخطر على بال أي من النقاد أو الكتاب أو حتى بيكت نفسه بأن أحداث هذه المسرحية ستتحول إلى واقع مُعاش بكل ما فيه من حزن وسخط وسواد، وبأن شعباً بأكمله سينافس "استراجون" و "فلاديمير" على بطولة هذا العمل لكن هذه المرة دون أن يحصد جوائز الأوسكار المسبقة الصنع تلك…
فالإنسان السوري اليوم يعيش ليكمل دوره المفروض عليه عنوةً في مسرحية الإنتظار المقيتة، كيف لا وقد أصبح الإنتظار عادةً من عادات الإنسان السوري أو فلنقل تقليد من تقاليد الحياة السورية بحلتها الجديدة والتي لا تخلو من الموت والتشرد والغرق والوقوف على أبواب السفارات وإنتظار تصاريح العمل التي أصبحت ممنوعة على السوريين ودفع الرشاوي والمبالغ الدسمة للحصول على تأشيرة تسمح بالدخول إلى أراضي العرب- ممن أغلقوا أبوابهم المخلوعة سلفاً وكتبوا عليها بالخط العريض "ممنوع دخول السوريين"- والركض ليل نهار لتأمين لقمة العيش المغمسة بالدم بكل ما تحمل الكلمة من حزن ووجع!
فالأم السورية والأب السوري وما تبقى من أشلاء العائلة السورية اليوم ينتظرون عودة أولادهم من الغربة القسرية وينامون ويستيقظون ويأكلون ويشربون على ذلك الأمل، والشاب السوري ينتظر بفارغ الصبر ذاك اليوم الذي سيحرق فيه كل الجوازات والإقامات التي منحت له يوماً كحقنة مورفين منتهية الصلاحية ليعود إلى وطنه وأهله وبيته، ليعود إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، ليعود إلى حارته التي إشتاق لها وإشتاقت إليه، ليعود إلى ضيعته التي تشوّهت معالمها ونهشت الحرب أحجار بيوتها الباكية.
والزوجة السورية تنتظر زوجها المغيب خلف ظلام أحد الأقبية الدنيئة التي لا يعرف طريقها لا إنسٌ ولا جان.
والسوري الجائع ينتظر ذاك اليوم الذي ستتحقق فيه فعلاً تلك المقولة العربية العنترية بأنّ "أحداً لا يموت من الجوع" بعد أن مات جوعاً وشهدت أضلاع صدره البارزة على سفالة العالم أجمع الذي يتشدق ليل نهار بإنسانيته "الفالصو" المخصصة للتصدير لدول العالم الثالث المثقل بالأوجاع حصراً.
والطفل السوري القابع في خيمته يقاسي حر الصيف ووحل وثلج الشتاء هناك على حدود بلدان العرب (أعزهم الله!!) ينتظر اليوم الذي سينام فيه تحت سقف إسمنتٍ حنون، والأوكسجين السوري المخنوق ينتظر اليوم الذي سيتحرر فيه من رائحة البارود والدمار والجثث، والتراب السوري ينتظر اليوم الذي سيشرب فيه ماءً لا دماً بعد أن أتخمته شلالات الدماء…
والأرض السورية تنتظر اليوم الذي سترقص فيه فرحاً على موسيقى وقع أقدام العائدين إليها بعد طول غياب…
الإنسان السوري عموماً ينتظر شهامة حكام العرب وكرمهم الحاتمي وحميتهم المخدَّرة التي لم نسمع عنها إلاّ في كتب التاريخ المحشوة بعنترياتهم المستوردة وحكايا توم وجيري التي لطالما كانوا فيها ذاك التوم الأحمق!!
الإنسان السوري ينتظر اليوم الذي سيرحل عن وطنه كل الغرباء ممن دنسوا أرضه بأقدامهم النجسة الممزوجة بطين الحقد والسواد والأجندات الخبيثة المتخمة بعفن الطائفية والتيارات الكاذبة التي جلبوها من قمامة الماضي السحيق الذي أكل عليه الزمان وشرب.
الإنسان السوري ينتظر سوريا الموعودة التي سننام جميعاً على صدرها ونضحك هذه المرة لأننا مللنا البكاء، سوريا الموحدة، سوريا الأم، سوريا الأب، سوريا الأخ، سوريا الحضارة، سوريا العلم، سوريا التي يختصر إسمها كل ما في العالم من جمال وحسن ودلع… السوري ينتظر الخلاص ولا شيء غير الخلاص.
هل عرفتم الآن من هو ذاك الــــ Godot السوري المغوار الذي ينتظره الشعب السوري بفارع الصبر؟؟ وهل يأتي حقاً أم أنه سيطيل الغياب ولن يأتي أبداً؟