هن نساء خارج حسابات 8 مارس/آذار، وخارج أسطر خطابات حليقات الرؤوس وجهوريات الصوت، اللاتي ما فتئن يلقين اللوم على الرجل ويدعين الدفاع عن المرأة وعن كرامتها.
هن نساء من نوع خاص، بظروف خاصة، أحاطت بهن دائرة الفقر والعوز والمشاغل والمشاكل، فحرمتهن من التمتع بمذاق الحياة السعيدة، وأجبرتهن على الركض خلف قوت العيش الكريم.
كن عازبات، متزوجات، أو مطلقات، يبقى القاسم المشترك بينهن هو مسلسل المعاناة المكرر، الذي يقتسمن حلقاته كل يوم في سبيل البحث عن لقمة عيش كريمة وسط كومة من المتاعب والمشاكل، أرغمتهن الظروف على العمل في أدنى المعايير وبأقل الأجور.
هن نساء لا يعرفن لا مساحيق تجميل ولا "مانيكير" لا "بيديكير" بقدر ما تعرف أياديهن -التي كانت ناعمة- تأثير مساحيق ومواد التنظيف في حصص يومية من الأشغال المنزلية بالبيوت، كما تعرف أرجلهن انتفاخات وتورمات جراء المسافات الطوال التي يمشينها.
يخرجن في الصباح الباكر مع بزوغ إشراقات جديدة، يعبرن القناطر والممرات المظلمة تحت رحمة قطاع الطرق والمجرمين، يسابقن عقارب الساعة من أجل توفير قوتهن أو إعالة ذويهن، باختصار هن نساء تشبعن بمنطق "الحرة تجوع ولا تأكل من ثدييها" فأبين أن يستسلمن لحاجتهن، وقررن التسابق لخطف اللقمة من أفواه الذئاب.
يبعن كل شيء وأي شيء إلا العرض والكرامة، يضبطن المنبهات على الساعة الرابعة، يخرجن في ظلمة الصباح على إيقاع دندنات "الهلال"، يستقلن أول ناقلة صغيرة "هوندا" يصادفنها أو دراجة ثلاثية العجلات "ثريبورتور"، متوجهة نحو سوق الجملة.
يشمرن عن سواعدهن، ويخالطن أغلظ أصناف الرجال، ليدرجن في حساباتهن أن عليهن الحيطة الحذر من مكر الماكرين، من أيادي النشالين، وكيد البائعين وأعين المتحرشين، نساء متعففات يقضين يوماً كاملاً من الكد والتعب مقابل دراهم قليلة من حصيلة البيع. قد يبعن الخبز والبيض أو أي شيء إلا العرض والكرامة، قد يبعن الفواكة أو الخضر، النعناع و"الشيبة" ومختلف الأعشاب والنكهات العطرة، في حين ما زلن يبحثن عن نكهة حياة سعيدة أمام قساوة العيش وغدر الزمان.
بنات "السورجي" و"البيكوز"
يمشين في جماعات مسافات طوال، لعل تجمعهن يصرف نظر لصوص الطرقات عنهن، تباينت أعمارهن وأشكالهن، فيما طوت تقاسيم وجوههن آهات الألم وابتسامات الأمل، يضاعفن ساعات العمل، ويبذلن فوق طاقتهن لانتزاع لقمة حلال لتأمين جزء من متطلبات حياة ارتفعت فيها الأسعار والتكاليف. يتوجهن إلى المعامل أو الحي الصناعي، الذي غالباً ما يكون معزولاً وبعيداً عن المناطق المسكونة، يعملن على الأقل عشر ساعات يوميًّا، في ظروف تنعدم فيها أدنى شروط العمل، إذ تعد نساء المعامل أو من يعرفن بنساء "السورجي والبيكوز" أضعف حلقة في معامل الحي الصناعي، التي يستغل أربابها قلة حيلة المرأة التي قصدت معاملهم، وحاجتها لدريهماتهم المعدودة، فيتحرشون برواتبها وبها وحتى بأحلامها، في حين لم يرحمها مجتمع خرجت من رحمه وبقت منسية على هامشه.
نساء في المرائب
نساء لسن أحسن حالاً من سابقاتهن، يبحثن فقط عن شيء من الأنوثة بدواخلهن، قد تشابهت أسمالهن وأصواتهن، بتلك الخاصة بالرجال، يقضين اليوم بأكمله في ترديد عبارات "زيد شويا ليمن"، "دور كلشي لهنا.. باراكا"، لهن نصيبهن من الجمال، ولكن لا حاجة لهن للأناقة، يلبسن قبعة رياضية، لا يهم شكلها أو لونها أو حجمها، الأهم أن تخفف حر الشمس التي يلسع بشرتهن لساعات طوال، وزرة زرقاء رجالية تختفي وراءها معالم قوامهن. يتحملن مسؤولية حراسة العشرات من السيارات في مختلف المرائب، كما يتحملن النظرات اللاسعة والكلمات المائعة، ليجنين دراهم محسوبة أو محاسبات من دون دراهم.
نساء بدون "واتسآب" أو "فايسبوك"
هن نساء لا يعرفن طريقاً للمسلسلات التركية ولا المكسيكية ولا غيرها، لا وقت لديهن لـ"الشات" أو للدردشة، بل لا تعني لهن كلمات "فايسبوك"، "واتسآب" أو "تويتر" شيئاً، يحسبن الحواسيب و"الآيفون" وأدنى متجليات التكنولوجيا وأدوات الترفيه "شائعة" أو منتوجات من عالم آخر.
هن اللواتي يجمعن حطب التدفئة بين أشجار غابات جبال الأطلس وفي سفوح جبال الريف، فقط لتأمين إشعال نار أو طهي خبز وشاي، هن اللاتي يتزاحمن في سيارات النقل المزدوج، يخبين وجوههن بأثواب ولا يرفعن أعينهن إلا في الثمار التي يعملن على قطفها، في المراعي والضيعات التي يستأجرن فيها بأزهد التعويضات، هن نساء يتساءلن في كل لحظة، ويتسرب الشك إليهن حول هوية انتماءهن إلى خارطة النساء المغربيات، اللواتي لا يبحثن عن الشهرة والأضواء وزرابي المهرجانات الحمراء، ولا عن صورة لهن على غلاف إحدى المجلات النسائية..
نساء اختار المرض أن يسكن بيوتهن
شاءت الأقدار أن تملأ رفوفهن وحقائبهن وصفات وعلب الأدوية، والشهادات المرضية وأكوام الأوراق من التحليلات والخبرات الطبية، هن اللواتي يتكبدن عناء التنقل والسفر من مستشفى إلى مستشفى، من جناح الكشف إلى جناح الجراحة، حاملات مع الصور الإشعاعية لأعضائهن المريضة، أو لأطفالهن
وأزواجهن، (حاملات) أمل شفائهن وشفاء ذويهن، راجيات أن يجدن من يحسن إليهن بدفع تكاليف عملية جراحية للقلب، أو المساعدة في ثمن حصص "الدياليز" و"الشيمي تيرابي" وحصص الترويض أو هبة على شكل كرسي متحرك.. يتحملن لا مبالاة الطبيب، وبطش الممرض، وطمع حارس الأمن، هن نساء اختار المرض أن يسكن بيوتهن، فزادتهم أمراض المجتمع ألماً على ألم، فبكين جراحهن وجراح ذويهن في صمت..
قاطنات دور العجزة
رمت بهن فلذات أكبادهن، في الخيريات ودور العجزة، ربين أولادهن وأولاد أولادهن، ليجدن أنفسهن في آخر المطاف وحيدات، حبيسات في جدران مؤسسات خيرية، يحتفظن بصور من رمى بهن إلى هذا المكان، ويلتمسن لهم ألف عذر، لم يتخيلن أن ما بذلنه في سبيل تربية أجيال، سيذهب سدى مع زوجة ابنها العاقة، أو بقرار إخلاء مفاجئ، أو بعملية استيلاء على أملاكها.
لم يتخيلن أن غدر الزمان سيفتك بنضالهن ولن يرحم شيبهن، أغلبهن لم يتحملن الصدمة بل لم يستسغنها، فأصابهن بعض من الجنون، فيحضنَّ أي زائر وأي مار، وينادينه بأسماء أبنائهم، وهناك من تصبِّر نفسها بأن أبناءها ما إن يعلمون عن مكانها، سيهمون بإخراجها وإرجاعها إلى مملكتها، متناسية أنهم هم من زحزحوها عن عرشها
لُقِبْنَ بـ"بائعات الهوى" بالخطأ
أغلبهن لم يحصلن على أي دبلومات أو شواهد دراسية أو خبرة تمكنهن من كسب حلال يغنيهن عما يفعلن، يحملن لقب "بائعات الهوى" بالخطأ، دفعتهن الظروف أن يؤجرن في أرصفة الشوارع الراقية، تحت الأضواء الحمراء للحانات وفي غرف بيع اللحوم بأرخص الأثمان، هن اللواتي اضطررن لوضع أجسادهن كولائم تغذي لذات وشهوات الزبائن، ظروفهن القاهرة هي المسؤولة عن امتهانهن الليل، وعن تجرعهن مذاق الويل، في سبيل تأمين مبلغ علبة حليب لأطفالهن الرضع، وتسديد إيجار الغرفة المكتراة، أو لإعالة الأب أو الأم المقعدة، تتعذب أجسادهن جراء كل ممارسة، وتستحيي وجوههن الخروج في غير الظلام، تنتقدهن الألسن التي سرعان ما يسيل عليهن لعاب بعضها، وتبرّأ منهن مجتمع لا يستطيع أن ينفي أنه من نسج مآسيهن.
هن نساء ينتمين لهذا الوطن
هن نساء ينتمين لهذا الوطن، ويشكلن الفئة العريضة منه. لا تعرف الأضواء وعدسات الكاميرات طريقاً إليهن، ولم تتكلف الأقلام برسم بورتريهات بأسمائهن، هن ضحايا الاستعباد والتهميش والجهل والفقر، هن ضحايا الاغتصاب والاستغلال والعنف وفتاوى الموز والجزر. هن من يستحققن لقب المكافحات والمناضلات، هن نساء مغربيات كغيرهن في الانتماء، وعداهن من ناحية الابتلاء، فوجب العمل على تخفيف وطأة قساوة ظروف العيش عليهن، بتقديم المساعدة المادية والمعنوية لهن حتى لا يجدن أنفسهن منبوذات داخل مجتمع أنجبهن ليتبرأ من أمثالهن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.