حان شهر مارس/آذار أو شهر "المرأة" كما يحلو للبعض أن يسميه، وفيه يكثر الحديث عن المرأة في شتّى أرجاء العالم، وكل يقارب الموضوع وفق منطلقاته وَرُؤاه؛ بين من يتحدث عن المرأة ككائن خارق.. وبين من يكرس ثقافة الكائن الدونيّ.. وللأسف تضيع كثير من هموم المرأة بين طرفي نقيض؛ طرف ما زال يرى فيها ذلكم الكائن الناقص الذي خلق للغواية والضلال، بتسويغ ثقافي مغلف بالدين، وطرف يرى فيها مصارعاً للرجل وكائناً متمايزًا عنه..
نظرة الدونية:
إن كثيرًا من الآراء المتداولة اليوم عن المرأة باسم الدين، ما هي إلا آراء ثقافية أو رواسب تقاليد تاريخية، وما زاد هذه الآراء رسوخاً سعيها إلى البحث عن أدلة من الوحي.. والحال أن أول نقد لهذه الرؤى يكمن في الرجوع إلى الوحي، حيث إننا نجد القرآن حسم هذه النقاشات بالتركيز على وحدة الخلق "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ" [الأعراف:189] ووحدة العمل على هذه الأرض" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، ومن عمل فلا يضيع أجره كيفما كان جنسه "إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض" [آل عمران:195]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال".
فمن مميزات التشريع الإسلامي، أنه لم يجعل ميزان التفاضل بين الناس باعتبار الجنس، وإنما جعل معيار الفلاح الأخروي مؤسساً على التقوى، لأنها معيار كسبي اختياري بخلاف الجنس الذي لا خيار للإنسان في اختياره.
لذلك، فإننا إذا ولينا وجهنا شطر نصوص الوحي سنجد تصوراً كليًّا للمرأة يناقض كثيراً مما يروّج عنها باسم الدين، حيث تبيّن لنا كثير من الآيات القرآنية، أن الرجال والنساء بعضهم من بعض، وهذه رؤية تكاملية، وهي تكفي لنقض الرؤية التفاضلية أو التصارعية، وميزة التكامل قيامه على قيم الولاية في الخير، كما جاء في آية التوبة "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله" [التوبة:71].
وتطبيقاً لهذا المبدأ وجدنا امرأة في المسجد ترد على أمير المؤمنين عمر الفاروق، رضي الله عنه، وهو يتحدث فوق المنبر على الملأ، فيرجع عن رأيه إلى رأيها ويقول أمام جمع من الناس: "أصابت امرأة وأخطأ عمر".
وأمام هذه المواقف التي تقدم لنا تصوّراً تقريبيًّا عن مجتمع الرسالة وما بعده، أتعجب لبعض فتاوى الاختلاط، والتي تحيل إلى منع أي اجتماع بين الرجل والمرأة ولو في سياقات منضبطة، وكأن الإسلام نزل لتقسيم الناس لمجتمعين مختلفين، في حين أن الرؤية القرآنية الكلية بيَّنت أن رابطة العلاقة الجامعة بين كل الناس كيفما كانوا هي "التعارف".. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" [الحجرات:13] ويؤطَّر هذا التعارف بقيم التقوى الكلية في سبيل مجتمع متصالح مع قيمه الدينية والإنسانية.
نظرة الفوقية:
في مقابل تكريس نظرة دونية، نجد نظرة أخرى تُظهر المرأة وكأنها كائن خارق خلق ليحكم العالم ويقهر الرجل، وقابلَت هذه الخطابات النظرة الدونية بـ"استبعاد" المرأة من المجال العام باسم الأنثوية، بنظرة فوقية تقوم على "استعداء" الأنثوية، والعمل على تكريس مماثلةٍ آلية ميكانيكية بين الذكر والأنثى، خصوصاً عند التوجهات النسوية المتطرفة، وقد خطت كثير من النسويات العربيات نفس الخطى.. باعتبار المرأة الغربية النموذج.
والمتأمل في هذه النظرة يظهر له إشكالية فكر "المقايسة"؛ أي قياس وضع المرأة في العالم العربي بالمرأة في العالم الغربي، فتصير تلك المرأة هي النموذج، وفكر "المقايسة" بقدر إيجابيته في ضرورة الارتقاء بالفكر بمقارنته بالفكر الآخر.. بقدر خطورته في تنميط صورة المرأة، وجعلها تدور حول "مركز" موهوم؛ سواءً كان "المركز" غارقًا في التاريخ أو الحداثة.. فجوهر مشكل "النمذجة" يكمن في الوقوع اللاواعي في التقليد، وكأن فكرنا اليوم عاجز عن خلقِ نماذجه من مجالاته المعرفية.
والقارئ لكثير من الخطابات النسوية، والتي يتعالى صوتها أكثر في هذا الشهر، يلحظ قدرًا غير يسير من التنميط الذي يغلّب ثقافة التشابه ويغيِّب الاختلاف بمشاكله الواقعية.. اختلاف الهموم.. اختلاف الحقوق.. وتباين سقف المطالب الحقيقي.
ولو تأملنا عالمنا اليوم لوجدنا أن هناك نساء ونساء.. وللأسف تضيع حقوق كثير من النساء بين سندان "النظرة الدونية" ومطرقة "النظرة الفوقية".. خصوصاً المستضعفات الضاربات في الأرض، فقليلاً ما نجد من يتحدث عن هؤلاء النسوة.. وأتمنى أن يتسع الخطاب النسوي يومًا ليسع هموم المرأة، كيفما كانت، فيسمع لهموم امرأة بسيطة.. أتمنى أن يولي وجه اهتماماته شطر من يناضلن بصمت.. من يعانين في صمت.. وأحيانًا كثيرة يمُتن بصمتٍ.. فكل خطاب لا يراعي هموم المستضعفين فهو يكرس للنخبوية المقيتة.. نخبوية حتى في ثقافة "الحق" و"الواجب"!
فعلينا دوما أن نستحضر أن هناك نساءً ونساءً..
نحو نظرٍ جديد:
في مقابل نظرتين، تتراءى أمامنا أبواب موصدة تحتاج لأن تُفتح.. وطريق جديد يجب أن يُستأنف.. طريق نتصالح فيه مع ذواتنا.. ومع أهدافنا في هذا الكون الذي يسعُ الجميع.. نحتاج بحقّ أن نتخلص من أغلال التقليد التراثي وأغلال التقليد الحداثي، حيث اشتركا في ترسيخ التفاضل، إما تفاضل الذكر على الأنثى أو تفاضل الأنثى على الذكر.
ومن باب الإنصاف، فليس كل من تحدث باسم التراث ألبس المرأة رداءً دونيًّا، وليس كل من تحدث باسم الحداثة جعلها كائنا متصارعاً، وإنما هذه رؤى متطرفة في الجانبين معًا.. وللأسف يعلو صوتها، أمّا الأصوات الحكيمة فتتحدث بهدوء، وكثيرًا ما يضيع صوت الحكمة وسط الضجيج.
ومن ثمّ، فإننا أحوج ما نكون أن نخرج من ضيق التصورات الضيقة سواءً كانت باسم التراث أو باسم الحداثة، وبالمقابل، نحتاج إلى تسليط الضوء على الرؤى التي ترسخ رؤية التكامل بين خلق الله، مع احترام الاختلاف الذي خلق الله عليه الإنسان من غير محاولة فصل المرأة عن أنوثتها.. أو فصل المرأة عن إنسانيتها.. أو فصل المرأة عن كينونتها ووجودها.
وفي شهر المرأة.. أرجو صادقةً ألا نكرس مزيداً من ثقافة الصراع والصدام بين الرجل والمرأة، كما أرجو لمن يتحدثون باسم الدين أن يراجعوا فهوماتهم عن المرأة في ضوء الوحي لا الثقافة، وفي المقابل نحتاج أن نسائل عددًا من المطالب النسوية اليوم، خصوصاً تلكم التي تنظر للمرأة كجزيرة منفصلة عن العُمران البشري التي يتأسس على رحابة "الأرض الجامعة"، فالأرض رحِمٌ بَين هُم منها وإليها يرجعون..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.