في حديثه عن "أوفيد" و"لوكريتيوس".. امتدح "إيتالو كالفينو" مفهوم الخفة عندهم، ويعرِّف الخفة بالنسبة للقصّ الحديث بأنها: "هي أيضًا شيء ينبثق من الكتابة نفسها، من القوة اللسانية للكلمة" وهو ما أستعيره هنا..
في مجموعته القصصية "مائة غمزة بالعين اليسرى" تظهر خفة وحيد الطويلة -ولا أقصد طبعًا الكتابة منزوعة الدسم- أنه يخلّص اللغة بكل بساطة من ثقلها ورسم المشهد -تبعًا للبناء القصصي- في صور مكثفة لا تستغرق عدة سطور، حتى حين يكون حول ثقل الحياة الذي لا يُحتمل.
الخفة التي تبدو كردة فعل على ثقل الحياة وثقل العيش الذي يبدو أن لا سبيل لمقاومته. شواهد الخفة المستمدة من الحياة اليومية والبحث عن الخفة المتضمنة في البنى أساساً، شبكة الحوادث/الأحداث التي تحوطنا أكثر فأكثر، وثقل المادة الذي يسحقنا.
بداية من القصة الأولى "الموت بالعرض" حتى الأخيرة "وساوس لينة" شريط القص، محاولة للالتفاف على الواقع، الشخوص غير نمطية الذين بلا ملامح واضحة، والسعي لرسم التمايز الذي يفتقدونه. مصائرهم ونهايتهم، طموحهم وأحلامهم، هواجسهم وصراخهم. يخلعون على وجههم ملامح الجدية حين يكتشفون أن هناك أشياء كثيرة بالحياة لا يعرفونها كما في قصة يقف كزاوية منفرجة: "يتساءل دائمًا بصوت عالٍ، لماذا لا يترك الأشياء على طبيعتها، ولماذا المدينة تزخرف الأبيض بالرمادي والرمادي بالأبيض، لماذا البنت تشبه المرأة والمرأة لا تشبه البنت؟".
هل يبحثون عن شيء جديد، أم يريدون أن يعيشوا اللحظة، دون أن يتركوا لأنفسهم فرصة ليفكروا في الغد؟ فوضي "بن خفيف للسعادة" إحداهن تزغرد، والأخرى تصرخ، رجل يقول الله أكبر. والباقون يهتفون بحياة السيد الرئيس".
نعمات في قصة "مدار الجدي" تعلقها وأشواقها: "تنتظر في البلكونة، تمسك ببقايا وردة، تباغتها، وهي تعد، سيأتي، لن يأتي".
عبد الرشيد، في القصة التي حملت المجموعة اسمها، الذي ينام حزينًا وتهدهده أمه لأنه لم يرَ خسوف القمر. الرغبة والحرمان والانكسار" يطوي ساقه العرجاء أسفل المقعد، فيطوي معها أكثر من نصف رغباته".
الدرويش في "عصافير الجنة" الذي يكرهه الدمرداش "لكنه يحتاج جسرًا لتوصيل غيته للمشايخ الكبار.. يريد أن يصبح درويشًا". حكي العودة في "كما يليق برجل قصير" إلى الحديث عن محمد أبو سنة دهب لولي "اسمه تردده البنات هكذا، دفعة واحدة" حديث يكاد يعلو إلى أفق الأسطورة!
الإيقاع التهكمي والمفارقة الساخرة حينًا، والمأساوية حينًا آخر لوقائع الحياة المادة الخام للبناء. الحبكة القصصية، ما بين الشخوص والأحداث ونفي الزمنية. الإحالات إلى الماضي، التي تُختزل إلى الحد الأدني لإظهار الرغبات القديمة، العوالم المتماثلة في حصريتها، والعوالم بلغة التناقض لتدمير أمل في اليقين.
حضور الحلم و الحكايات الأولي، كلام الجدة وحكي القرية الساذج؟ وخزه وشظاياه. التضاريس المجتمعية، هواجس القرية والمدينة همومها ومحاولة الهروب منها أو التكيف معها. بائعات الهوى اللاتي يتحدثن أحياناً عن الشرف وعن السياسة. المقهى الذي تنمو فيه الصداقات العابرة؛ اقتسام الشاي والحزن، لعب الأوراق ومراقبة فيض الشقراوات والبيضاوات. المقهى كتيمة ومكان لاقتناص الشرائح المشهدية.
الجسد كحقل للإدراك، الجسد كعنصر لازم ومركز لهذه الإدراكات.
تنويعات السرد لتستوعب الأشواق المنسية والأحلام المقموعة التي تكتسب حيوية خاصة. غواية السؤال والغموض والرموز. وجوه الرغبة، انفلاتها وقمعها. مونولوجات -الأبطال- هواجسهم وأشياءهم الحميمية، الأحلام المقتولة وأوهام الذات وصراعها. الحب بين الإمكانية والاستحالة. التوافق بين الشخصية وملفوظها، تنقل المتن/النص بين السرد والحوار، والحرص على أن يكون الحوار محكيًا، وميل السرد إلى توثيق منتجه الحكائي والحدثي لخدمة نسيج السرد الذي ليس له نهاية واحدة، بل نهايات تحتمل التأويل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.