لا يمر وقت على الإنسان دون أن يحدث تواصل بينه وبين الآخرين، وبينه وبين ما في العالم من كائنات وظواهر، تارة يتم هذا التواصل عن طريق الإبصار والسمع، وتارة عن طريق اللمس والشم والذوق.. فترتسم في ذهنه صورة هذه الأشياء وتمر على شاشة الذهن، ثم تُخزن في الذاكرة إلى حين الحاجة إليها، فالأفراد في تفاعلهم بواسطة سلوكاتهم ومواقفهم ورغباتهم يبنون علاقات أفقية مع بني جنسهم وعمودية مع كيانات الطبيعة، هذا التفاعل هو ما يطلق عليه "التواصل".
وتحتل نظرية التواصل مكانة متميزة في المشهد الفكري واللغوي المعاصر، نظراً لتعدد المنابع التي تنهل منها بغية التأسيس لنموذج تواصلي متميز يعاش ليعبر عن الإنسان في جوهره ككيان متعدد البناء.
ولمقاربة الموضوع لا بد من الإشارة إلى فكرة أساسية وجوهرية، مفادها أن المعرفة لابد لها من التنوع والتعدد، وبالأحرى التكوثر، ومن هذا المنطلق ينظر لنظرية التواصل كوعاء لعلوم عدة يتداخل فيها الدرس اللساني بفلسفة اللغة بالمنطق، في ارتباطهم بعلوم أخرى نفسية واجتماعية وغيرها، وتستمد أصولها من النظرة العامة للعالم واللغة، أي اللغة والواقع، إذ الوظيفة الأساسية للغة تتمثل في التواصل الإنساني، وقد ظهرت عدة مباحث تولي التواصل الإنساني مكانة مرموقة، وذلك بهدف تنمية الخطاب في بعده الحواري والتواصلي، ونستحضر في هذا المقام ما قدمه أقطاب المدرسة التحليلية، ومباحث فلسفة اللغة، هذه الأخيرة ركزت على دراسة اللغة في علاقتها بالسياق، لذلك يمكن أن نلقب هذا التوجه بمدرسة السياق، بحيث انصبَّ تفكيرها على ضبط العلاقة بين المتكلم والآخر الذي يتجاوب معه، هكذا يتبين أن معرفة كيف يتم التواصل أكثر أهمية من معرفة ما يتم إيصاله.
من هذا المنطلق تحدد الأخلاق البعد التعاملي للتواصل الإنساني، حيث تعطيه القيمة العلمية وتنفي عنه ما يتعارض مع المصالح المشتركة والنبيلة بين المتخاطبين، ولذلك لزم أن تضبط الأقوال بقواعد تحدد وجوه فائدتها الإخبارية.. كما لزم أن تنضبط الأفعال إلى قواعد تحدد وجوه استقامتها الأخلاقية أو التعاملية. وبناء عليه فالتخاطب بنية تفاعلية تقوم على ضربين: مبادئ تواصلية وأخرى تعاملية، وإن أهم مبادئها التي تقررت عند المشتغلين بالنظر في الكلام الإنساني خمسة وهي: "مبدأ التعاون" و"مبدأ التأدب" و"مبدأ التواجه" و"مبدأ التأدب الأقصى" و"مبدأ التصديق"، وسنكتفي في هذا المقال بالحديث عن مبدأين هما مبدأ التعاون ومبدأ التصديق.
يعد مبدأ التعاون من النماذج البارزة التي حاولت مقاربة ظاهرة التداول والتواصل، مع رائده "كرايس"، ويمكن صياغته في العبارة الآتية:
ليكن انتهاضك للتخاطب على الوجه الذي يقتضيه الغرض منه.
ويتكئ هذا المبدأ على أربع قواعد:
أولاً- قاعدة كم الخبر.
ثانياً- قاعدة كيف الخبر.
ثالثاً- قاعدة علاقة الخبر بمقتضى الحال.
رابعاً- قواعد جهة الخبر.
إلا أن هذا النموذج تعرض لنقد قوي، يكفي أن نذكر ما أورده الأستاذ طه عبد الرحمن في هذا الباب.. من أن هذا المبدأ لا يضبط إلا الجانب التبليغي من التخاطب، أما الجانب التهذيبي منه فقد أسقط اعتباره إسقاطاً. ويقترح عوضاً عن مبدأ التعاون مبدأً أطلق عليه مبدأ التصديق يؤطِّره بقاعدة عامة هي:
لا تقل لغيرك قولاً لا يصدقه فعلك.
ويجد هذا المبدأ ما يوطده في التراث الإسلامي بكثرة الأبواب التي تشير لنفس المعنى المراد به، من بينها باب تصديق العمل للكلام.
ويتأسس هذا المبدأ بدوره على عدة قواعد نذكر منها اختصاراً:
أولاً- ينبغي للكلام أن يكون لداعٍ يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع أو دفع ضرر.
ثانياً- ينبغي أن يأتي المتكلم به في موضعه ويتوخى به إصابة فرصة.
ثالثاً- ينبغي أن يقتصر من الكلام على قدر حاجته.
رابعاً- يجب أن يتخير اللفظ الذي به يتكلم.
وتترتب هذه القواعد على أفضليات ثلاث هي:
الصدق في الخبر، الصدق في العمل ومطابقة القول للعمل.
خلاصة القول إن مبدأ التصديق يرتقي بالجانب التهذيبي من المخاطبة ارتقاء، إذ بفضله يخرج هذا التهذيب من مرتبة التأدب الاجتماعي المفروض والذي لا يتجاوز الكياسة والمجاملة والمداراة إلى مرتبة التخلق المخلص الذي ينشد الكمال في السلوك.
إن الحاجة اليوم تبدو ملحة للانفتاح على الدرس التداولي بزخمه الفكري الكبير، نظراً للأعطاب التي تعانيها منظومة التواصل في المجتمعات الإنسانية، والتي عمقتها أكثر الفجوة الكبيرة بين ما ينتج من نظريات تقارب ظاهرة التواصل بشكل علمي أصيل، والنسبة العامة لما يقرأ خاصة في المجتمعات المتخلفة. فأزمة التواصل لم تفلح حتى مواقع التواصل الاجتماعي في تقليصها، إن لم نقل زادت من حدة الصدام بين شرائح المجتمع، نظراً لعدم التخلق بمبادئ الحوار وأخلاقيات التواصل، التي تغيب عن معظم الحوارات الإنسانية سواء في تجلياتها البسيطة أو المعقدة.
فهذه الأخلاقيات هي التي بقدورها تدبير المختلف الإنساني، وتوسيع دوائر البحث في المشترك الإنساني، على أن العمليات التواصلية -حسب نظرية المساءلة- التي تتم بين الناس، هي طريقة لا تهدف إلى إيصال شيء ما، أو تبليغ فكرة، أو تعبير عن رأي أو موقف، بقدر ما هي طريقة لتغيير الاختلاف الإشكالي الذي تختزنه الأقوال التواصلية، وطريقة لتقريب المسافات بين الآراء والمواقف.
مراجع للتوسع:
باسيدي عليوي: التواصل بين نظرية الحجاج ونظرية الإنجاز
عبد السلام عشير: عندما نتواصل نغير
طه عبد الرحمن: اللسان والميزان
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.