في مقهى سيدي بوسعيد تلك المنطقة السياحية المشهورة في قلب تونس الخضراء، كنت أتأمل البحر وأرتشف الشاي التونسي المميز بإضافة الصنوبرعليه أو كما يقولون اللوز، كنت أتأمل البحر وأستنشق عبيره المنعش، أتأمل كل شيء حولي، تلك الأبنية البيضاء المميزة بشبابيكها وأبوابها الزرقاء، الناس والعادات والتقاليد والأكل والملبس وحتى طريقة الكلام، كل شيء يدعو للتأمل، يا الله كم نسينا التأمل حتى كدنا ننسى أنفسنا إن لم نكن نسيناها أصلاً.
الشعب التونسي شعب محب للقهوة، حاله حال كثير من الشعوب العربية، القهوة أصبحت رمزاً لبعض الدول ولا يكاد يأتي ذكر بعض تلك الدول إلا وتذكر قهوته معه، القهوة أصبحت هوساً، صباح بعضنا ليس بصباح إن لم يكن فيه فنجان قهوة، والبعض يرسل لك عبر وسائل التواصل الاجتماعي كلمة صباح الخير مصحوبة بكوب أو فنجان من القهوة، كنت أجلس في ذلك المقهى الشعبي أراقب وأتأمل كل شيء، نفسي وما حولي، بجانبي أسرة من أهل تلك البلاد، مع تلك الأسرة شابة في العشرينيات من عمرها، تجلس في هدوء، ترتشف من فنجان القهوة وتستمتع به أيما استمتاع، انتظرتْ إلى أن أكملته وأفرغته ولم يتبقَّ فيه سوى البن، وجهت كلامي لها بكل أدب واحترام متبعاً في ذلك المثل الذي يقول (يا غريب كن أديب) وسألتها: هل تريدين أن أقرأ لك الفنجان، ارتسمت ابتسامة عريضة على محياها وأجابت وقد لمعت عيناها من الفرح: نعم بالتأكيد. يعيشك خويا، أخذت منها الفنجان أتأمله وألفه في يدي، نظراتها وأسرتها كانت وكأنهم يقرأون تعابير وجهي لعلهم يجدون في قسماتي ما يشفي غليلهم ويُهدئ من روعهم، قلت لها: القلق يكاد يفتك بك، تخافين من مستقبلك بشكل لافت، ويظهر من فنجانك أن لديك مشكلة في عدم إحساس من حولك بك، لم أكد أنهي كلامي معها حتى سمعتها وهي تتنهد بعمق ثم تقول لي: نعم للأسف، نظرت إلى أسرتها وأكملت حديثها قائلة: أخبرهم بذلك لطفاً، هم لا يفهمونني نهائياً، تحولت ابتسامتها إلى حزن ومعاناة واضحة، انشغل أهلها بنقاش خفي فيما بينهم بلغة العيون والإشارات والكل يلقي باللوم على الآخرين، قلت لها.. وقلت لها.. وهي تشير برأسها موافقة على كل ما أخبرها به، تتحسر تارة وتفرح تارة أخرى، كنت أستشعر بأنها تريد معرفة المزيد، كنت أرى ذلك في عينيها وأعين أهلها، نظرت إلى من يجلسون في المقهى فوجدت أن معظمهم يمسكون بفنجان القهوة في إيماءة منهم تنم عن رغبتهم في أن اقرأ لهم الفنجان، اعتذرت منهم بلطف أصابهم بالإحباط والامتعاض، أمامي شاب كان يراقبني وهو يرتشف من ذلك الشاي الأخضر المميز بنكهة تونس وعبير تاريخها العريق، ألقيت عليه التحية المعهودة في تونس: عالسلامة، شنو أحوالك؟ هل تريد أن أقرأ لك الشاي، لم يصدق ذلك الشاب ما سمع، ابتلع ما تبقى من الشاي بلعاً وقدم لي الكأس فارغاً لكي أقرأه له وظل ينظر إلى وكأنه طفل ينتظر قطعة من الحلوى، يصارع نفسه هل سيحظى بها أم أنه سيكون من المحرومين، قد يسخر البعض من الشاب ويقولون: أي مغفل هذا الذي يريد أن تقرأ له كأس الشاي ؟ ولكن من يقرأ فنجان أو فنجال القهوة لا يضحكنا وهو أمر عادي بالنسبة للكثيرين منا، يكاد لا يمر فنجان قهوة إلا وقد قرأه البعض، لا أخفيكم علماً بأنني أخبرت الفتاة ببعض الأمور التي تقبلتها مني وتعجبت على قدراتي في سرد المعلومات الخاصة بها، ليس لأنني خبير في قراءة الفنجان، ولكن لأنني أعرف أن كل فئة عمرية تحلم بأشياء معينة، تطمح لأشياء معينة، تعاني من أشياء معينة، أخبرتها بما يتقبله أي أنسان من عمرها شاباُ كان أو شابة.
كنت كثير السفر والتجوال وكنت حريصاً على تأمل كل ما هو حولي، شاهدت التعلق بفنجان القهوة في كثير من الدول، يشربون القهوة ثم ينفخون في الكوب ويحركونه ويقلبونه رأساً على عقب على الطبق ثم يزيحونه قليلاً حتى يخرج ما فيه من ماء، أما البن فسيبقى في الكوب وسيرسم لنا أهدافنا وطموحاتنا ومستقبلنا والأشياء التي يجب علينا عملها والأشياء التي يجب الابتعاد عنها ومن سيؤذينا وماذا ينتظرنا، الجميل في الموضوع أن الذي يقرأ الفنجان أحياناً يكون هو من يشرب القهوة في محاولة منه لرؤية ما يريح خاطره ويطمئنه بأن الأمور بخير وتحت السيطرة، فنحن في واقع نخاف فيه من كل شيء، نخاف فيه من المستقبل ونخاف فيه من المجهول، نخاف ونخاف ولا نفكر أن ننظر إلى الأمور بأمل أو توكل أو يقين، وعندما لا نستطيع طمأنة أنفسنا بأنفسنا نأتي بمن يطمئننا ونطلب منه أو منها أن يخرونا ماذا يقول لنا الفنجان.
عالمنا غريب يبحث فيه الإنسان عن أي شيء ليوضح به أي شيء بينما أمامنا كل شيء وكل شيء واضح، نخاف ونقلق فنبحث عن الاطمئنان في أي مكان وبأي وسيلة، قراءة الكف وما تقوله خطوط اليد وكيف أن خط العمر يتقاطع مع خط العمل، الأبراج وما أدراكم ما الأبراج، وشوشة الودع، التطير، التشاؤم، القلب المقبوض، العين الرفرافة، الضرب على الرمل.. أشياء كثيرة قد يعتبرها البعض مجرد تسلية أو تجربة يخوضونها مرة في العمر، لكنها بالنسبة للكثيرين هي أسلوب حياة ومبدأ، فنجان القهوة يقول، الأبراج الشهرية والسنوية تقول، الودع بعد أن توشوشه وترمي بياضك يقول، أوراق الكوتشينة تقول، ورمش العين لو وقع على كتفك يقول.. كل شيء يقول، والبعض منا للأسف يستمع ويقتنع ويطبق ويخاف ويقلق، وينسى أن الله خلقنا وسخر لنا كل شيء وجعل لنا ما يسمى بالعقول، ليس لنلغيها أو لنغيبها بل لنفكر ونقرر ونخطط ونسعى، وأن يكون لدينا أمل عبر الإنجاز والعمل وليس عبر فنجان قهوة تركية، فليحذر من يقتنعون بقراءة فنجان القهوة، لأن كل شيء عنهم سيكون معروفاً وقد يراقبهم من حولهم عبر فنجان القهوة وما يقوله ذلك الفنجان. الحمد لله على نعمة العقل والله المستعان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.