نسمعُ كثيراً عن فوائد تعلم لغات جديدة وأهمية تمكن الفرد من تحدث أكثر من لغة في وقت واحد بجانب لغته الأم، لتصبح اللغات عنوان ثقافة وتنور للشخص، وانفتاحه على العالم. أصبح وجود اللغة الإنجليزية إلى جانب العربية الأم شرطاً أساسيًّا للعمل في شتى المجالات باعتبارها لغة العولمة، وحتى شرطاً لقبولك ضمن أي فرع في الجامعة إن كنت خارج بلدك.
تربينا منذ صغرنا في المدارس على تعلم لغتنا العربية الأم، رغم أننا نتعلم لغةً مختلفة بشكل كبير عن اللغة العربية "الفصحى"، تسمى اللغة "العاميّة"، والفصحى هي لغة القرآن والأدب والعلم ووسائل الإعلام والصلاة وما إليها، وهي لغة خالصة سليمة من كلِّ عيب، لا يخالطها لفظ عاميّ أو أعجميّ، خلاف العاميّة، والفصحى أيضاً كل لغة نهجية تخضع لقواعد الصرف والنحو ولأصول التركيب اللغوي..
وبذلك نحن نعرف لغتنا الأم في المساجد والمدارس والجامعات والشعر والكتب والجرائد ولكننا لا نحكيها، نكتب بها ولكننا شيئاً فشيئاً ننساها، يحلُ محلها كلمات أخرى دخيلة، تتساقط منها عمداً تعابير خالدة، ومشاعر صادقة، ومفرداتٌ خاصة لا توجد فيما سواها لأننا تمرسنا بلغات أخرى ضيعت علينا لغتنا الجميلة.
أحياناً هناك الكثير من الأفكار الجادة لا تستطيع أن تنطقها إلا باللغة العربية الفصحى، وإن استعملت اللغة المحكية فإن هذه الفكرة سيُنتقص من قدرها. أنت عظيم لو تعصبت قدر المستطاع للغتك كما يفعل أهل الحضارات لأن العربية الفصحى أشد بياناً وأعلق بالأذهان والأفهام والنفوس والأفئدة.
كانت السنوات الخمس التي مرت بسوريا قاسية جدًّا علينا، بما فيها من دم وفراق وتهجير وحرمان واختفاء وجوع وخوف وفقدان وتغرب، وفي المقابل انفتح السوريون على كل العالم، ليصبح عنوان المرحلة العريض "السوريون يغزون العالم"، من البلدان التي دخلناها باسم اللاجئين ونعيش فيها حياة السائحين خصوصاً من الناحية المادية، جارتنا تركيا.
نتعلم لغتها ذات العمر القصير (قرابة 84 عاماً) بحروفها اللاتينية الـ29، لغة تحمل في طياتها معاني لم نألفها في بلدنا، ولم نكبر على سماعها، لم توقظنا أمهاتنا عليها، لم ترسل أي صبية لنا بها رسالة حبٍ أول عن نظرةٍ أولى، لغةٌ لم ندرسها في مدارسنا بجانب الإنجليزية والفرنسية، لم نسمع أنّ سوريًّا تعلم اللغة التركية وربما حصل ولكنّه نادر، بل تعلمنا الإنجليزية كلغة عالمية وضرورية بسبب القوة والتكنولوجيا والمصطلحات العلمية مجبرين، ربما درس أحدنا الفرنسية في المدرسة ثم استمر محباً لها في الجامعة، أو درس اللغة الألمانية من أجل السفر إلى بلاد الجرمان لدراسةٍ ما أو بحثٍ عن منحة أو فتاة شقراء حيث لم يعد يعجبه سمارُ البلد. لم يخطر ببالنا يوماً أن تكون اللغة التركية قدرنا القادم، ليس كرهاً بها وتعصباً للغة الأم التي لا نحكيها تقريباً، ولكن يحبُ الإنسان أن يختار لنفسه.
لا أدري إن كان العنوان يتوافق مع المكتوب، هل اللغة التركية جميلة؟ لن أكون كاذباً إن قلتُ إنها لا تعادل من العربية كتاباً واحداً إن تحدثنا عن الأدب العملاق والشعر الخالد والرواية العبقرية والوصف الدقيق والبيان الساحر والتعبير الإبداعي.
يتحدث اللغة التركية قرابة الـ90 مليون نسمة ونيف حول العالم، لها عدة لهجات أشهرها الإسطنبولية، تتكون مفرداتها من اللغة التركية الأصلية ومن العربية والفارسية، تتجاوز الكلمات العربية التي تحتويها التركية على 6459 كلمة. فيما يحتوي القاموس التركي كله على (616.767) كلمة بينها 14% أجنبية.
صراحةً لا يمكن اعتبار اللغة التركية منطقية بالنسبة لي، حيث إن بنية الجملة التركية الصحيحة تتكون من (الفاعل ثم المتممات ثم الفعل)، ولا توجد قاعدة تعتمد ترتيب سياق الجملة الطويلة خصوصاً؛ فبحسب مدرسي اللغة التركية تعتمد على فهمك للجملة ولكنها بالواقع تعتمد على اللغة المحكية في الشوارع. وبالنسبة لنا كعرب نرى أن الجملة معكوسة كلياً مثلاً: أنا أحب لغتي الأم، فتُقال في اللغة التركية أنا لغتي الأم أحبُ.
Benim anadil seviyorum
تحتوي اللغة التركية سبعة أزمنة أساسية هي: الماضي والماضي الشهودي والماضي النقلي والحاضر الحالي والمضارع البسيط والمستقبل وفعل الأمر، ولا وجود فيها للمذكر والمؤنث على خلاف غالبية لغات العالم. فيما أخبرنا المتنبي:
فلا التأنيثُ لاسم الشمسِ عيبٌ.. ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
أحياناً ذكر بيت شعر واحد قادر على فهم مقدرة اللغات العظيمة على إيصال الفكرة بأسلوب عجيب، ففي زمن الدولة الإسلامية في الأندلس وانتشار الثقافة الإسلامية العربية وبناء أقوى حضارة عرفتها أوروبا في حاضرتها قرطبة كان تعلم اللغة العربية شرطاً أساسيًّا لدخول الجامع الكبير (وهو أول جامعة في أوروبا) ونهل العلوم المختلفة، حيث كان الشاب الذي يأتي من ليون مثلاً يتعلم اللغة العربية وآدابها من شعر ونثر وعروض ونحو وشيئاً من علوم القرآن ثم يتعلم الطب.
وكان الشاب البرتغالي إذا أراد أن يغازل حبيبته قال لها بلغتنا العربية "أحبُّكِ" بينما نحن اليوم نُكثرُ من:
-Seni seviyorum- love you- Je t'aime-
لا عيب أبداً بتعلم لغة جديدة على العكس أنت تتعرف على ثقافة أخرى، وعادات ممتعة وغريبة لم تسمع عنها. اللغة ليست مجرد حروف مصفوفة بل هي تاريخ بذاته، وجغرافيا متسعة، ثقافةٌ وفن وإبداع، بها يُرسم الخيال، وبها تُصنع الأذواق، بها تُحكى الأفكار، وبها تُكتب الأجيال.
كانت اللغة التركية القديمة أو (العثمانية) والتي عمرها أكثر من 1300 سنة قريبة من اللغة العربية وتكتب بحروفها، ولكن الضعف والانحطاط التاريخي والإفلاس المعرفي جعلها تذهب مع السلطنة التي كانت تحكم بها نصف العالم، استطاع مصطفى كمال أتاتورك أن يغير تاريخ وماضي شعب كامل بجرة قلم، وغيّر حروف اللغة من العربية إلى اللاتينية.
1300 سنة منذ بدء الترك أولى كلماتهم بكونهم عرقاً قديماً.. استطاع الحاكم الذي اعتلى السلطة بانقلاب متوحش أن يبعثرها باختراع لغة حديثة. وهو ما تحدث عنه جورج أوريل في روايته 1984 عن تغيير اللغة واختراع كلمات جديدة لحقبة سياسية تبدأ بقوة البطش فلا داعي لكلمات مثل جيد وسيئ، جيد وغير جيد تكفي.
سأكون يوماً ما متحدثاً بهذه اللغة "الجميلة" التي إن لم أخترها محبةً فقد اخترتها طوعاً، وقد أتعلم غيرها ولكنني على ثقة أنني سأُبقي حبي وولائي وكل معرفتي في إطار لغتي ولغة أجدادي "العربية الجميلة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.