عن تجربة القراءة في زمن الأسئلة الصعبة | قراءة الموسيقى: لغةٌ لا يُساء فهمها

ليست مبالغة إن قلت أني بت قادرة على سماع طبقة من الصوت تليق بمشاعرنا غير المكتملة فتضمدها وتعلو بها إلى استقبال يليق بها في زمن الحرب و أمكنة تذكرك بكل فقد وقهر وحياة كلها شظف، لكن ليس الأمر مجرد حكي .. كانت حقيقة عشتها وأعانتني كثيراً على المضي في هذه الحياة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/27 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/27 الساعة 05:49 بتوقيت غرينتش

في الحلقة الأولى من "عن تجربة القراءة في زمن الأسئلة الصعبة" كان الحديث عن: قراءة التجارب والخبرات ،اليوم في الحلقة الثانية الحديث عن:

قراءة الموسيقى: لغةٌ لا يُساء فهمها

عادة لا تستطيع أن تفكر بشكل سليم وأنت في مطلع حريق أو بجوار شجار عنيف أو تحت سيل مندفع باحداث وتفاصيل تأتيك من عالم أسفيري يذهب بك إلى حواري العراق تارة ومعاركها أو حركة مرور مزدحم تضيع عليك موعد هام أو فضيحة فنان مكسيكي في جزر المالديف أو هتاف ثوار في أزقة تونس أو حوار غاضب من مديرك أو تقترب من قصص خلف القضبان في مصر و خبر عن مرض في الهند أو رسالة عتاب من صديق أو صورة طفل لاجئ في سوريا.. إن العالم يسكننا رغماً عنا  وإن هربنا منه، كله يتحدث في نفس واحد.

هذا الضجيج أصابنا بقساوة وغلظة، رتم الحياة السريع أصاب النفس بالارتباك.. إننا نشبه موجات صخب وضجيج مرتبكة، كان من الطريف أننا نعتب على العالم زحامه وقسوته ونحن جزء من ذلك الضجيج، لم يكن هناك من مفر سوى أن تحفظ ما تبقى من إنسانيتك تعالج نفسك بنفسك بعيداً عن تكرار التأفف من البشر صباح مساء. نحن المعنيون أولاً وأخيراً أن نزيل هذا الغلاف السميك الذي ران على قلوبنا وعقولنا كي نطمئن ونستطيع التفكير في أجواء صحية، وإلا سنكون جزء من هذه المحرقة الجماعية لكل ما هو جميل.

غلاف سميك

كانت فكرة الهرب من الزحام دون اعتزال الناس تسيطر عليً كثيراً.. لا أعرف كيف أستطيع أن أعيش في هدوء مع الرغبة في العيش وسط الناس.. كل شئ في هذا العالم  يشعرك بالزحام، بل بالضجيج المزعج.

يمكنك أن تتحمل نوع من الزحام، كازدحام الطيور في ميدان واسع ، أو اصطفاف الناس منتظمين في طابور لإنهاء معاملة حكومية.. لكن هذا النوع من الزحام يشعرك بأن الحياة كلها كتل من الفوضى بلون رمادي احترقت كلوحة من الفسيفساء فاسدة.

أعتقد دائماً أن الله لم يخلقنا ليعذبنا وأنه قد " خلق الإنسان في كبد" لكن هناك ثغرة ما في هذا الجدار السميك نصطدم به كل حين.. أثق أن الله قد خلق لنا ما يحفظ فطرتنا.. حتى اكتشفت عالم جديد بلغة رائعة لا يُساء فهمها، تعيش معها تُحاكيها وتحكيك.. تشكو لها ولا تنتظر أن تجيبك بإجابات محفوظة واستدعاء شعارات أمل زائفة في وقت أنت في حاجة فيه إلى أن تشعر الآن باليأس.

أحياناً الشعور باليأس مطلوب كي تنتقل منه إلى رغبة في العيش إن أحسنت استقباله، أحياناً الشعور بالإحباط طبيعي كي تنتقل منه إلى رغبة في التغيير .. لقد اعتدنا أن نكتم هذه المشاعر وننعتها بالسلبية رغم تمكنها منا.. كانت الموسيقى هي اللغة التي أحسنت فهم هذا الاحتياج الفطري.


درس الموسيقى الأول

كانت مجرد ليلة و مقطوعة بدأت خافتة عادية تشعرك بالاستقرار وبأن كل شئ مرتب في مكانه، ثم فجأة بدأت كأنها تدق سريعاً كوتر الحياة الذي تعيشه كأمواج بحر عاتية وصوت ارتطامها بك تتراطم هنا وهناك ثم كل شئ يهدأ ويسكن.. ويظل صوت ارتطام الموج تسمعه في صوت البيانو والكمان الهادئ كأنه يخبرك بلا حروف أنها الحياة هكذا لا تسير على وتيرة واحدة وأن ما تشعر به ليس غريباً.

وجدت هذه الدموع التي كانت قد تحجرت ويمنعها رغبتك الدائمة في أن تبدو قوياً لا تريد السقوط تسقط بأريحية.. وأزالت هذا الغلاف السميك الذي صنعه الواقع، كان حكي النفس بلا كلام أو حروف مع تلك الموسيقى التي رأيتها لأول مرة تحكي نفسك وعالمك وكأنها بديل عنك تقص عليك تفاصيل الحياة وتهدهدك، منذ ذلك الحين بدأت دروس الموسيقى، وبدأت انبته لعالم لم أكن أراه من قبل.

1- مرآة جديدة

كنت أظن أن الموسيقى هي بضعة آلات تمتزج فيما بينها لتصنع لحناً، إلا أنه وبعد أن بدأت أقرأها كقراءتي للكتب وجدتها تعني اللحن الجميل الخفي خلف كل شئ كنت أراه جامداً، حتى أني لم أعد آراها في معركة بين الترفية أو التحريم، لأني لا أتحدث عن موسيقى بها صوت إنسان يغني أو صورة راقصة أو كلمات لا معنىً لها، الموسيقى التي أعنيها هي كل لحن جميل يُحدثك.

انسجمت يوماً مع الموسيقى ووجدتني أردد " لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين".

انتبهت أني أدعو الله وأنا في قمة انسجامي مع مقطوعة موسيقية، سيكون من الغريب أن أقول أن الأمر قد اختلط علي أيهما كان طريقا للثاني: إحساسي بجرس كلمات القرآن أم لحظات السكون مع الموسيقى، إنها حالة لا تعرف من البادي ومن الآتي.

إنها الحالة التي تأتيك حين تنزع نفسك من معارك تقتل كل شئ جميل فينا، وتغرق بين أسئلة خاطئة لا تنشغل بالغاية، كانت الغاية هنا كل الغاية أن تستعيد فطرتك.. أن تقترب من الله وتشبه نصفك الذي نفخ فيه من روحه.

عرفت هنا أن الموسيقى ليست آلات بل هي كل جمال كامن لا تقع عينيك عليه، ستصبح تفهم الناس من نبرة أصواتهم، حين يضحكون وقلوبهم تبكي، صوت بكاء الطفل، حدة الأم وهي تنهر ابنها، صوت كتابة كلها ألم وكآبة أو أخرى كلها حديث سخيف وتافهة، خلف كل هذه الأصوات إنسان هو كتلة من المشاعر والأفكار وجزء كبير من سلوكه هو تعبير عما بداخله، ستشعر أنك لم تعد تأخذ كل ما يحدث أمامك على محمل الجد، لأنك تكأدت أن هناك صوت آخر لم تسمعه خلف كل قصة.

2- قصة خلف كل سطر

جعلتني الموسيقى أشعر أكثر بالتباين بين البشر في مسألة الأذواق بعيداً عن الصواب والخطأ، والتباين بينهم في التعبير عن الشعور والحالة المزاجية، الموسيقى والطعام والملابس والألوان ربما لها صنعتها، لكن مهما حاولت إقناع أحدهم أن هذه المقطوعة أو هذا اللون أفضل فهو لن يتذوقها مثلك، كل حسب شعوره وحالته المزاجية وحاجته وطباعه، إن هذا الأمر يجعلك أكثر تفهماً لما يجري حولك، لأن هناك صورة أخرى تراها تختلف عن تلك البادية أمامك.

كنت ممن يرى أن البعض يبالغ ويتطرف في حكي شعوره والآخر يبالغ في إبداء غضبه وحنقه، أما الآن فتعلمت من موسيقى الكون أن التعبير أذواق كل ما يحكمنا ألا نؤذي بعضنا البعض، أما غير ذلك فلم أعد أر تصرفات البشر ولم تعد تعنيني .. كم كنت ساذجة حين كنت أعتقد أن على العالم أن يكون كما أريد.

3- استقبال الشعور

نحن نعيش تحت طبقات من الشعور غير المكتمل، لا نستقبل الفرح كما ينبغي ولا نستقبل الحزن كما ينبغي، تسارع الأحداث تجعلنا لا نتقن استقبال الشعور، فتشعر بأنك مع الوقت تعيش حياة متناقضة تارة تود أن تبكي بحرقة، وتارة تجد نفسك تضحك لسبب بسيط، وكانت مواقع التواصل الإجتماعي جزء مما أفسد هذا الاستقبال، وارتبط حكي الشعور برأي الناس وبحضورهم.

لا أدري إن كان ما أقوله صحيحاً أم لا؟ ، لكني أحكي تجربة شخصية تتعلق بما أسميته " ضيافة الشعور" أعتقدت مع الوقت أننا ننعم بالسكينة حين نحسن استقبال الشعور ويأخذ كل شعور حقه منا في استضافته، ولأن هذا من الصعب حدوثه في عالم تتداخل أحداثه وتفاصيلها فيما بينها ولا تعطيك الفرصة الكافية لأن تبكي على ما يحتاج إلى بكاء وتضحك على ما يستحق الفرح. فوجدت أن الموسيقا أو بمعنى آخر الاستماع إلى تلك اللغة التي لا يُساء فهمها يُعالج هذا النقص.

أصبح لدي الآن قوائم خاصة، لم أقم باختيارها بناء على معايير ولا نظريات علمية ولكن اخترتها بناء على حاجتي الداخلية لها، لدي قائمة إن كنت في حالة أحب أن أستدعي كل نشاط وطاقة فيها. وأخرى حين أشعر بالبرد والرغبة في أن أستدعي حالة شجن خاصة وأخرى حين أحب أن أُساير تلك الرغبة العارمة في التمرد على العالم، كانت الموسيقا هنا تقوم بالمساعدة في استقبال شعور لن يكتمل بمفرده.

4- أميّة الموسيقى

لم أفكر في تعلم الموسيقى.. أحببت هذه العلاقة الساذجة مع بعض الأشياء في الكون، فهذا التعقيد الذي اعترى البشر ولم يترك للإنسان متنفس لأن يقرأ بتلقائية بلا قيد أو حاجة إلى شهادات وأوراق موثقة أخفت عنه الكثير والكثير.

حديث الله إلينا، صوت الطبيعة، لحن قطرات المطر، عزف على الوتر، أنامل تنساب على بيانو أو كمان كلها ليست في حاجة أن تتعلمها أو تدرسها، فقط أن تحسن الإحساس بها ثم تترك نفسك معها.

كنت أختطف نفسي تارة من المطبخ، ومرة أخرى من وسط الكتب، أو أهرب بها من حكي منظم عن خطط المستقبل لأجلس على هذا الكرسي الذي وضعته خصيصاً هناك في ركن من المنزل فقط للموسيقى أو للاستماع إلى جلسة مع الصمت كجلسة مع كتاب، كل ما في الأمر أن اختياراتك ستتغير مع الوقت، كمن احترف فهم نفسه وباتت لديه القدرة على الاختيار بذوق رفيع.

كان ورد من أورادي اليومية كل ليلة حتى الآن أمارسه منذ أكثر من سنتين، أحببت هذه الدروس وهذه القراءة فصنعت لها مكاناً خاصاً في المنزل، ركن خاص لهذا النوع من القراءة، ركن بسيط مقعدين وبضعة وسائد وبعض كتبي المفضلة وكل ما أحب أن أراه أمام عيني من هدايا الأصدقاء والألوان المفضلة.

ليست مبالغة إن قلت أني بت قادرة على سماع طبقة من الصوت تليق بمشاعرنا غير المكتملة فتضمدها وتعلو بها إلى استقبال يليق بها في زمن الحرب و أمكنة تذكرك بكل فقد وقهر وحياة كلها شظف، لكن ليس الأمر مجرد حكي .. كانت حقيقة عشتها وأعانتني كثيراً على المضي في هذه الحياة.

ثم كانت تجربتي التي تزامنت معها في "قراءة الوجوه" – في الحلقة القادمة.
"يُتبع"

** اللوحات للفنان صلاح إبراهيم

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد