سلامٌ على عبدالله الذي وفى !

من كان يعرف عبدالله، فليقرئه مني السلام فقد بقي حياً في قلبي، بعد عشرين عاماً، وفي هذا فليتأمل المعلمون، والكتاب وأصحاب الرسالات، فإن البذور كما يبدو، تبقى حية حتى يشاء الله،

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/21 الساعة 00:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/21 الساعة 00:29 بتوقيت غرينتش

أن يزورك معلمك في المنام بعد عشرين عاماً، لعمري إنه لحدث جلل، يستدعي التأمل والتفكير. ما الذي جاء به من تلافيف الذاكرة المرهقة بتفاصيل الألم، وفراق الوطن ونأي الأحبة وبُعد الأصدقاء؟

ما الذي جاء به من عشرين عاماً حتى هذا اليوم، الذي مرت به القيم التي علمنا إياها بكل الاختبارات المريرة، وحُفرت لها الأخاديد العميقة، وفِتحت لأجلها أبواب المعتقلات ليزج فيها الأحرار وكل من قال لا للجلاد والطاغية؟!

عشرون عاماً مرت منذ كان عبدالله الـ… أستاذ التربية الإسلامية، الذي لم يتقيد يوماً بمقرر هزيل وضع ليخرّج طلاباً لا يفقهون شيئاً من أمر دينهم ولا يحولونه واقعاً يعيشون به دنياهم. لكن أستاذي عبد الله، كان صاحب رسالة.

أستاذي عبد الله كان ينفتح في كل حصة كبحر من العلوم والخبرات، التي نغوص معه فيها، فيعطينا عطاء أصحاب الرسالات، عطاء من يعطي لله، ويزرع لله، وَيَا عجبي يا عبدالله!
لقد بقيت بذورك حية في روحي بعد عشرين عاماً، لتزهر زهرة إضافية بعد شتاء طويل جدًّا، وقاسٍ جدًّا وعلى غير موعد.

أستاذي عبد الله كان رجلاً حرًّا نبيلاً وقد تلقى وعده الذي تلقيناه في عالمنا العربي، كُلُّ من كان منا حرًّا..
أستاذي عبدالله اعتُقل كما عرفت، ولا أدري إن خرج من السجن أم لا، أرَحَلَ أم لا، هل هو حي أم لا؟
لك الله يا عبد الله.. لكم الله يا عُبَّاد الله الأحرار.. لكم الله أيها الناس، وقد دار عليكم كأس التعب والعذاب، فما ترك شفة إلا أسقاها منها عنوة حتى أترعت أسى. لك الله يا عبدالله.. لكِ الله يا حنان.. لك الله يا تمام.. لك الله يا عائدة.

النبلاء الفلسطينيون والمصريون الذين قدموا لي خلاصة أرواحهم يوم كان عظمي طريًّا. اليوم عظمي طري أيضاً، لكنه وهن من شدة ما حمل هذا الهيكل المتهالك من هموم.

لكنكم ما زلتم هناك، في عظمي، وروحي وقلبي، وفجأة بعد عشرين عاماً أتذكركم، فأنا لم أنسكم حقيقة. إنكم من علمتم لله، من أعطيتم من قلوبكم لله، من بُحَّت أصواتكم من أجل أن تقولوا لنا من أين الطريق، من أجل أن تهدونا وتحمونا، وتمنعونا من الحريق.
لكننا احترقنا يا عبد الله..
احترقنا يا حنان، يا تمام، يا أبي، يا أمي..

إن القيم التي علمتمونا إياها، لا تصلح لهذا الزمان.. إن قيم الصدق والنبل والطهر والنقاء والعفة، لا تصلح لزمن الكذب والحقارة والقذارة والسقوط الأخلاقي المدوي. لقد تعلمنا منكم المثالية والطهر، وحاربنا وما زلنا نحارب للحفاظ عليها.
لكننا احترقنا!

احترقنا، احتراقاً ذاتيا بإنسانيتنا، في عالم فاقد للإنسانية، مدع لها.. احترقنا بطهرنا واستقامتنا في عالم لا يفهم إلا الكذب والنفاق والتلوي والتلون. يُظهرون القلق بلسان، ويعمّقون للغرق بألف مجرم وسفاح وسجان..

لكننا يا عبدالله، بقينا أوفياء كما علمتنا، لما علمتنا. لما علمتمونا، والله لقد بقينا أوفياء، بعون الله، رغم أن النار تأكل الضلوع على حالنا وحال أمتنا.. كما وفيت يا عبدالله، حتى دخلت المعتقل، وفّينا.. فهل العيب فينا يا عبدالله، أم فيما تعلمناه، أم في هذا الزمان؟ إن كان العيب فينا، وفي قيمنا، فما زلت أؤمن بها، ولم أتعلم الالتواء. وها أنا اليوم أعلمها لأبنائي، وقريباً إن أحياني الله أعلمها لأحفادي، وكل من اقترب منه من أبناء الناس، كما علمتنا.

ألم توصل الرسالة يا عبدالله، وعليّ أنا أيضاً أن أوصلها.. هذا على الأقل ما يمكنني أن أفعله..
سلام عليك يا عبدالله..
طبت أينما كنت.

من كان يعرف عبدالله، فليقرئه مني السلام فقد بقي حياً في قلبي، بعد عشرين عاماً، وفي هذا فليتأمل المعلمون، والكتاب وأصحاب الرسالات، فإن البذور كما يبدو، تبقى حية حتى يشاء الله، وقد كان قلبي مقفلاً عليه بالحزن والأسى واليأس بألف مفتاح، ولكن بذرة عبد الله الحية في روحي، أيقظتني من نومي، بل ومن أعمق حزني وعجزي على حال وطني وأهلي وأمتي، لتقول لي:
لا شيء، لاشيء يذهب هباءً، والبذور الطيبة تثمر وتظل تثمر وتثمر حتى يشاء الله:
(مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها).

يارب اجعلنا واجعل معلمينا وكل من أوصل رسالة الخير من أهل الكلمة الطيبة، والفسيلة الحية حتى يوم الدين، يا رب الطيب والخير والطهر والعفو والرحمة والعطاء.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد