غزا ارتفاع الأسعار الكافر كل شيء في سوريا؛ الماء والكهرباء المقطوعة والسلع الغذائية والألبسة والأوكسجين المغشوش والضحكة المخنوقة والأمل المشنوق وبطبيعة الحال الحُب المسكين. فاليوم أصبح الحُب في سوريا من الرفاهيات والكماليات التي لا يمكن لأي مواطن عادي مسحوق معترٍ امتلاكه أو حتى التفكير به..
ففي حال وقعت في فخ الحُب وخفق قلبك، فاعلم يا صديقي بأنك جنيت على نفسك وما جنى عليك أحد! فالحب في يومنا هذا لم يعد مخصصاً للفقراء وأصحاب الجيوب المهترئة والأحلام المسروقة والأنفاس المقطوعة من الركض ليل نهار خلف رغيف الخبز والأقدام المترنحة من طول الوقوف على طوابير الغاز والمازوت المفقود والسكر والرز.
الحب يا صديقي أصبح معلباً كالكونسروة وعلب التونة والسردين ومصفوفاً ومرتباً بطريقة أنيقة تلفت الأنظار فوق الرفوف المتخمة بكل ما لذ وطاب في المولات والسوبر ماركتات الفاخرة التي لطالما كنت تذهب إليها بقصد التسلية وتمضية الوقت لا أكثر وأنت لا تملك في جيبك إلا أجرة السيرفيس لتعود بها إلى منزلك الخائف هناك وسط أحد الأحياء المنسية التي ازدانت جدران عماراتها المبعثرة هنا وهناك بالعبارات المضحكة المبكية التي تحمل في طياتها الكثير من السخرية والصدق الذي ربما لن تراه في كثير من الكتب المغبرّة المكدسة في المكتبات! كأن تقرأ على سبيل المثال عبارة تقول لأحدهم "لا ترمي القمامة هنا ياااا …." – ضع العبارة المناسبة في الفراغ- علماً بأن الأوساخ وأكياس الشيبس الفارغة وقصاصات الورق وأكياس القمامة المنحورة المرمية من النوافذ وبرك الوحل والطين المنقوشة في كل مكان تتناغم مع ضجيج المكان وعبثيته الفطرية وسخط الحياة.
الحب يا صديقي أصبح حكاية من حكايات الجدات التي اعتدت النوم عليها عندما كنت طفلاً لا تعرف من هذه الحياة إلا اللعب والشقاوة والزعرنة والضحك ولعب دور المريض بحرفية عالية تفوق حرفية الكثير من ممثلي اليوم حتى لا تذهب إلى المدرسة. أتَذْكُرُ قصة الأميرة النائمة تلك والتي لطالما حلمتَ بأن تكون الفارس المغوار الذي سيطبع قبلته الشافية على شفتيها لتتعافى بعدها وتستيقظ من غفوتها وتتزوجا وتنجبا الكثير من البنات والصبيان وتصبح الأمير الذي سيتربع على عرش المدينة الجميلة المحاطة بالأشجار والأنهار؟ أتذكر بأنك كنت تستيقظ كل صباح على ذاك الحلم الذي بقي أسيراً خلف قضبان عالم الأحلام البريئة، حتى نضجت وعركتك الحياة وعلمت بأنّ جدتك أو أمك كانت تضحك عليك بتلك الحكايات حتى تنام وتغفو ليس إلاّ؟
وحتى لو صدقت قصة الأميرة النائمة فصدقني لن تكون أنت الفارس الذي سيسرق قلبها، كيف لا وهي تقبع هناك في قصرها الشامخ خلف جدرانه العالية وحراسه الأشاوس المدججين ويفصلك عنها ألف باب وباب، وأنت الطفل المسكين النائم في فراشه البارد والملتحف ببطانيته العسكرية السميكة التي جلبها أحد أفراد عائلتك معه بعد انتهاء خدمته العسكرية وسريره المترنح الذي يصدر صوتاً يوقظ أهل الحي كلما تقلبت.
الحب يا صديقي أصبح كالاشتراك في قنوات الـ BeIN Sport والذي قد يصل إلى 150 أو 200 دولار أميركي أي ما يعادل حوالي 80 ألف ليرة سورية. فأنت الذي كنت تعشق كرة القدم وتسافر من محافظة إلى محافظة لمشاهدة مبارايات فريقك المفضل وتتحمل ظروف الطقس في بعض الأحيان وتقف تحت الأمطار حتى يبتل إخمص قدميك وابتسامتك وصيحاتك تملأ أرجاء الملعب، وأنت الذي كنت تتمترس خلف شاشة تلفازك كالجندي في نوبة حراسته لمشاهدة مبارايات فريقك الأوروبي لتقفز صوب الغيوم عندما تسمع صوت المعلق يقول:"غوووووول" والتي للأسف لم تعد تستطيع مشاهدتها اليوم لأنك تفضل دفع مبلغ الـ80 ألف ليرة سورية لشراء الطعام والألبسة لأطفالك أو جرة غاز إضافية تحميك من غدر الحياة أو حتى أن تحتفظ بها في جيب جاكيتك القديم تحسباً ليومك الأسود كما يقولون، إذا لم نفترض بأن أيام السوريين اليوم أصبحت كلها مطلية باللون الأسود القاتم.
وبعد كل ما قلته لك لا أعتقد بأنك ستُحب بعد الآن وستترك بينك وبين الحب مسافة أمان تصل إلى آلاف الكيلومترات أو حتى أنك ستضع على قلبك قفلاً كبيراً وترمي مفتاحه في البحر. لكن لو كنت أنا مكانك الآن أجلس خلف شاشة لابتوبي الأليف أو أتأمل في موبايلي الجائع للكهرباء لقراءة ما تبقى من هذا المقال، لما فعلت كل هذا ولا أعطيت حتى أي أهمية لما قرأت ولزادني كل ما سبق إصراراً على أن أحب وأن أسمع الموسيقى وأن أحلم بوجهها وعينيها وضحكتها التي تضحك معها الدنيا، على أن أكتب لها بوستاً فيسبوكياً فيه قليل من الزعرنة البريئة والكثير من الحب أحكي به للناس عن جمال غمازات وجهها الوردي، على أن أسجل لها أغنيتها التي تحب بصوتي المتعب وأرسلها لها عند الصباح، على أن أسرق لها ضحكة أرسمها على وجهها أو فرحة خجولة أحفرها على جدران قلبها الحزين كما قلوب كل السوريين.
اركض إليها الآن وقل لها إن كنت قريباً منها أو اكتب لها إن كانت تفصل بينكم البحار أو اتصل بها أو قل للبحر أن يوصل لها عبر موجه العاتي أنك تحبها لكنك فقير، أنك تحبها لكنك متعب كسوريا كلها، أنك مشتاق لكنك لا تستطيع العودة التي يحلم بها كل السوريين ليل نهار، أنك لن تستطيع أن تشتري لها بيتاً فالبيوت في سوريا عمرها قصير، أنك لن تعدها بمستقبل معبَّد بالفرح فالفرح لملم أمتعته وهاجر على متن قارب مطاطي مع السوريين هناك وغرق في البحر، ولكن بالرغم من كل شيء تحبها..
هيا يا صديقي اذهب لها وقل لها بالحرف: "ما معي حق خاتم تنك.. بس بحبك!"، فخاتم التنك أشرف وأصدق من مليارات الدولارات التي تجمعها دول العالم الكاذبة في مؤتمراتها المانحة التي لا تمنح إلا الموت والتشريد والعار، والسوري يحق له أن يحب ويعشق ويقهر الموت والظلم ويتحدى العالم..
والحُب نفسه شخصياً همس في أذني منذ قليل وقال لي أخبر السوريين جميعاً في بيوتهم المظلمة وخيمهم الباردة وكامباتهم النائية: أنني أحبهم..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.