من أجمل اللحظات في حياة كل إنسان هي لحظة الإنجاز، أن ترى نتيجة تعبك حصادًا بين يديك، وأجمل الإنجازات في حياة أي منا هي التخرج من الجامعة، أو الكلية، ولبس عباءة الخريج، كم هي لحظات مليئة بالمشاعر، تشعرك بقيمة ذاتك، وبفرحتك الغامرة بعد التعب والسهر والمذاكرة، هذه اللحظات هي مكافأتك، وأنت تستحقها، بالإضافة إلى حصولك على "عباءة" تخرج بها إلى المجتمع وربما لا تُعرَف إلا بها فيما بعد.
عندما تحصل على الشهادة، فإنك تبدأ بالبحث عن فرصتك في الحياة، تبحث عن العمل الذي يناسب شهادتك ولقبك الجديد، فالطبيب يذهب إلى المستشفيات، والصيدلاني إلى الصيدليات، والمهندس إلى مكاتب الهندسة، والمحاسب إلى الشركات وهكذا، فإذا كنت محظوظاً ستحصل على عمل بسرعة، وإذا كنت محظوظاً أكثر فستحصل على راتب جيد منذ البداية، وربما لا تحصل على شيء فتدور وتدور وتبدأ بالبحث عن مهنة ربما تراها أقل شأنًا من تلك الشهادة التي تحملها، لكن متطلبات الحياة تجبرك على ذلك، وربما تتعلم حرفة أو صنعة تعتاش منها، وقد تفكر بمشروع صغير ضمن مجال تخصصك أو مجال آخر مختلف تمامًا عما تعلمت في الجامعة أو الكلية، وقد ينتهي بك المطاف جالسًا في عتمة غرفتك، تندب حظك السيئ وتعض أصابعك ندمًا على أنك درست في هذا المجال أو ذاك.
المشكلة ليست في هذا كله، المشكلة هي أن نعتقد أن هذا هو كل شيء، أن شهاداتنا هي التي تُعرِّف عنا، وأننا منذ وضعناها في إطار لنحفظها ونتباهى بها وضعنا أنفسنا ضمن هذا الإطار وأصبح من الصعب علينا أن نتعدى حدوده، وربما ظننا أن هذه الشهادة هي التي صنعت قيمتنا أو رفعت شأننا، لكن ذلك ليس صحيحًا تمامًا، فنحن الذين حصلنا على هذه الشهادة نتيجة تعبنا وجهدنا، ونحن الذين نعطي هذه الشهادة القيمة الحقيقية لها، نتيجة للمعلومات التي حصلنا عليها والخبرات التي اكتسبناها، والتي تؤهلنا للعمل في مجالها، فنحن إذن من نعطي القيمة للشهادة وليس العكس، بالإضافة إلى أننا يمكننا خلع هذه العباءة أحياناً، واكتساب خبرات في مجالات لا تمت لشهاداتنا بصلة، بل ربما نتحول فيها إلى منتجين، ومبدعين، وكم من مبدعٍ وملهم حولنا برع في مجالٍ لا يخص دراسته الجامعية، فليس كل كاتب درس اللغة، وليس كل مصور بارع لديه شهادة في التصوير، وليس كل رسام لديه مؤهل علمي في الفنون، وتطول مجالات الإبداع حتى تتعدى الحدود، بل إن هذه الخبرات الإضافية قد تساعد في تكوين صورة جديدة طيبة عنك أمام أصحاب الأعمال الباحثين عن موظف متميز موهوب، كما أنها بلا شك تخرجك من دائرة الروتين المملة إلى فضاءات أوسع، وآفاق أبعد، فتجدد لك نفسيتك، وتعطيك الفرصة لمقابلة المزيد من الناس الذين يحملون نفس الشغف، وقد تجد نفسك فيها أكثر، تلك النفس التي بحثت عنها طويلاً، بين سطور الكتب وملازم المذاكرة، أو بين زملائك وخلف مكتبك في مقر عملك، ولم تجدها.
حقيقةً، العباءة ثقيلة، وخلعها من حين لآخر لن ينقص من قيمتك أو هيبتك شيئًا، بل ربما يزيدك معرفة ومتعة وشغفًا وإنجازًا، فكم هي خسارة عظيمة لو بقي ملهمونا المبدعون في إطار شهاداتهم وألقابهم، وتحت عباءاتهم ذاتها التي صنعوها في أربع سنوت فقط، ليلبسونها ستين عامًا أخرى..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.