إنك امرؤ فيك داعشية “7”

هذه شذرات فقط عما فعله جمع من الأشاعرة بابن تيمية وتلاميذه، وهذا لا يعني أن جميع السادة الأشعرية وقفوا على الضد من ابن تيمية، بل هناك من ناصره أتم نصر، وله فيه ممادح وثناءات

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/14 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/14 الساعة 02:40 بتوقيت غرينتش

نتابع اليوم ما بدأناه في المقالات السابقة..
أما قصة ابن تيمية مع أشاعرة عصره فشهيرة معروفة، كتبت فيها مؤلفات، وذاعت فيها مصنفات، ولا تزال آثارها بادية بين أتباع ابن تيمية وخصومه حتى هذه اللحظة، وما بي في هذه المقالة الخوض في التفاصيل، ولا السرد التاريخي، وإن كان هذا الموضوع – رغم ما كتب فيه – قابلاً لتأليف جديد، ودراسة حديثة.

نعم لقد أظهر ابن تيمية آراء كانت مخالفة للسائد في زمانه، ورد على أناس "كبار" من السادة الأشاعرة، ومن الصوفية، وكانت ردوده مستفيضة لاذعة، فكتب في الرد على فخر الدين الرازي (الأشعري) في مجلدات كبيرة، منها بيان تلبيس الجهمية وقد بلغ ثمانية مجلدات محققة مخدومة مطبوعة، ومنها في الرد على الأشاعرة (وغيرهم) كتابه الشهير درء تعارض العقل والنقل، أضف إلى هذا الرد على المنطقيين، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في الرد على الصوفية، وغيرها كثير.

لكن أبلغ ما أهاج الناس على ابن تيمية رسالته في العقيدة التي سميت: الواسطية، ثم آراؤه في الطلاق، وشد الرحل لزيارة قبر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، والتوسل والاستغاثة، فعانى من هذه الآراء معاناة شديدة، وسُجِن بسببها مرّات.

وبسبب ردوده على الكبار نقل ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة – حين ترجم لتلميذه سليمان بن يوسف بن مفلح – نقل ابن حجر عن رجل يقال له الشهاب بن حجي قوله في ابن مفلح:" كَانَ جيد الْفَهم مَشْهُورا بالذكاء، قَالَ وَكَانَ فِي أَوَاخِر أمره قد أحب مَذْهَب الظَّاهِر وسلك طَرِيق الِاجْتِهَاد وَصَارَ يُصَرح بتخطئة جمَاعَة من أكَابِر الْفُقَهَاء على طَريقَة ابْن تَيْمِية".

فابن تيمية إذن عُرِف بالتصريح بتخطئة جماعة من أكابر الفقهاء حتى أصبحت هذه "طريقة" ينسب له من يحاكيه فيها. ولعل هذا من أسباب اكتساب العداوات، إذ كيف يردّ على الأكابر؟ هذا ديدن خصوم كل من ينتقد "الأكابر"، فكيف لو كان النقد ممزوجًا بحدة الطبع وشظف المحاورة؟

هذا الذهبي نفسه وهو معجب أشد الإعجاب بابن تيمية رغم مخالفته إياه في مسائل أصلية وفرعية يقول فيه:" فَإِنَّهُ مَعَ سَعَة عمله وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدّين بشر من الْبشر تعتريه حِدة فِي الْبَحْث وَغَضب وشظف للخصم يزرع لَهُ عَدَاوَة فِي النُّفُوس ونفورا عَنهُ وَإِلَّا وَالله فَلَو لاطف الْخُصُوم ورفق بهم وَلزِمَ المجاملة وَحسن المكالمة لَكَانَ كلمة إِجْمَاع فَإِن كبارهم وأئمتهم خاضعون لعلومه وفقهه معترفون بشفوفه وذكائه مقرون بندور خطئه لست أَعنِي بعض الْعلمَاء الَّذين شعارهم وهجيراهم الاستخفاف بِهِ والازدراء بفضله والمقت لَهُ حَتَّى استجهلوه وكفروه ونالوا مِنْهُ من غير أَن ينْظرُوا فِي تصانيفه وَلَا فَهموا كَلَامه وَلَا لَهُم حَظّ تَامّ من التَّوَسُّع فِي المعارف والعالم مِنْهُم قد ينصفه وَيرد عَلَيْهِ بِعلم".

قلت: صدق الذهبي، إذ يكفي بعضَ الناس أن ترد على من يراه كبيرًا لتسقط إلى الأرض السابعة دون حتى أن يقرأ ما تقول، ولا أن يتأمل في الاستدلالات، فيناقشك بعلم، فإما أن تكون مصيبًا لك أجران، أو مخطئًا لك أجر.

أوذي ابن تيمية كثيرًا وتعرض للضرب، والنفي، والحبس، والإهانة، والامتحان، والتكفير، فمن الأشاعرة من أمر بقتله، ومنهم من أمر بنفيه، ومنهم من كفّره كما قال الذهبي، ومنهم من استعدى عليه السلطان، ومنهم من سلّط عليه العوام، وتعدى هذا الإيذاء إلى محبيه وأتباعه، بل الحنابلة عمومًا.
فهاهوذا ابن مخلوف المالكي يبلغه أن الناس يترددون على ابن تيمية – وهو محبوس – فيكتب – كما نقل ابن حجر في الدرر الكامنة – إلى السلطان:" يجب التَّضْيِيق عَلَيْهِ إن لم يقتل وَإِلَّا فقد ثَبت كفره".

ولمّا أن كفّر الشيخ نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل البكري الشافعي ابن تيمية بسبب موقف ابن تيمية من الاستغاثة، قال ابن تيمية في ردّه عليه:"لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله".

وقد ذكر المترجمون – كالصفدي في أعيان العصر، وكالذهبي في السير، وكابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة، وابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية – أن البكري هذا وثب على ابن تيمية في مصر واعتدى عليه بالضرب وآذاه.

وكذا الشيخ علي بن أسمح النحوي الشافعي ذكر الصفدي في أعيان العصر أنه كان:"ممن يعبث بالشيخ تقي الدين بن تيمية ويؤذيه بلسانه، ويستعمل في الحط ما علمه من معانيه وبيانه".

وكذا نصر المنبجي الصوفي كتب له ابن تيمية كتابًا يعظه فيه لمبالغته في حب ابن عربي، فأصبح نصر من أعداء ابن تيمية، حتى قال ابن حجر العسقلاني في الدرر:"وَكَانَ من أعظم القائمين عَلَيْهِ الشَّيْخ نصر المنبجي لِأَنَّهُ كَانَ بلغ ابْن تَيْمِية أَنه يتعصب لِابْنِ الْعَرَبِيّ فَكتب إِلَيْهِ كتابا يعاتبه على ذَلِك فَمَا أعجبه لكَونه بَالغ فِي الْحَط على ابْن الْعَرَبِيّ وتكفيره فَصَارَ هُوَ يحط على ابْن تَيْمِية ويغري بِهِ بيبرس الجاشنكير".

وكذا ابن عطاء الله السكندري الصوفي صاحب الحكم العطائية، وشى به إلى السلطان فسيّره إلى الشام بسبب ردوده على كبار المتصوفة ولقوله إنه لا يستغاث إلا بالله.

وكذا كان الشأن في أولئك وغيرهم، حتى قال أحد تلاميذ ابن تيمية (وهو ابن عبد الهادي) في العقود الدرية:" قَامَ عَلَيْهِ خلق من عُلَمَاء مصر والشأم قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكابروه".
ولمّا أن أفرج عنه مرة بعد حبسه، أتى له السلطان بفتاوى مكتوبة تأمر بقتله من شيوخ بأعيانهم ليأمر فيهم ابن تيمية بما يريد إذا به يقول له:" هَؤُلَاءِ لَو ذَهَبُوا لم تَجِد مثلهم فِي دولتك أما أَنا فهم فِي حل من حَقي وَمن جهتي".

وتعدى الإيذاء إلى تلامذته، قال ابن عبد الهادي:" وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء منتصف شعْبَان أَمر القَاضِي الشَّافِعِي بِحَبْس جمَاعَة من اصحاب الشَّيْخ بسجن الحكم وَذَلِكَ بمرسوم النَّائِب وإذنه لَهُ فِي فعل مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع فِي أَمرهم وأوذي جمَاعَة من أَصْحَابه واختفى آخَرُونَ وعزر جمَاعَة وَنُودِيَ عَلَيْهِم ثمَّ أطْلقُوا سوى الإِمَام شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر إِمَام الجوزية فَإِنَّهُ حبس بالقلعة".

وهذا الشيخ شهاب الدين البعلبكي كان منحرفًا عن ابن تيمية ثم التقى به فاقتنع بكلامه وأحبه، ثم أصبح يصرّح بتحريم الاستغاثة والتوسل على طريقة ابن تيمية فضربه السلطان خمسين سوطًا، ومنع من التدريس، ونفي إلى مدينة الخليل، ذكر ذلك الصفدي في أعيان العصر.
وهذا محمد بن مسلّم الصالحي ممن انتصر لابن تيمية فأوذي بسبب ذلك.

وهذا الشيخ برهان الرشيدي الشافعي منع الإخنائي توليته للقضاء مع أهليّته لا لشيء إلا لأنه من أنصار ابن تيمية.
بل قاضي القضاة ابن جملة الشافعي حملته عداوته لابن تيمية على ألا يصلي عليه بعد وفاته!

هذه شذرات فقط عما فعله جمع من الأشاعرة بابن تيمية وتلاميذه، وهذا لا يعني أن جميع السادة الأشعرية وقفوا على الضد من ابن تيمية، بل هناك من ناصره أتم نصر، وله فيه ممادح وثناءات؛ غير أن هذه النزعة في العنف في التعامل مع المخالف لا تزال باقية موجودة تشتعل إذا نُفخ فيها.

ليس المراد الاستقصاء كما قلت، وإلا فلو استحضرنا ما فعله الأشاعرة حين وقعوا على وثيقة القادر بالله العباسي قبل قرون من عصر ابن تيمية وما جرى بسببها من قتل ونفي للمعتزلة وغيرهم، ولو استحضرنا ما فعله بعض المالكية بابن رشد؛ وما جرى للسهروردي، فضلاً عن مواقف الأزهر من بعض الباحثين المعاصرين كنصر حامد أبو زيد مثلاً؛ لطال بنا المقام.

والمقصد من هذا كله، أن استحلال دم المخالف المسلم وإراقة دمه وإيذائه ليس أمرًا تفردت به طائفة من الأمة دون غيرها.
وحريّ بمن رضي بما سبق وأقرّه وفرح به وشرّعه في حق المتأولين المسلمين الذين لم يرفعوا سيفًا وما خلافهم إلا بتأويل واجتهاد هدفه تنزيه الرب تعالى، حريّ بمن أيّد هذا في التراث، ثم هو يخالف داعش ويجرمهم أن يقال له:
إنك امرؤ فيك داعشية

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد