يكثر الحديث اليوم عن الحب والمشاعر والرومانسية بمناسبة "عيد الحب"، رغم قناعتي أننا لو كنا شعوباً تفيض بكل هذا الدفء والحنان والرقة التي أسمعها في إعلانات الراديو، وأراها على منشورات فيسبوك، وألمحها في هدايا وورود المحال التجارية لما رأينا كمّ هذه الدماء في شوارعنا، وظلمة هذا السواد في ليالينا، ورعب كوابيس تسرق بريق أحلامنا، ولكن هذا موضوع آخر لا أريد الاستفاضة فيه الآن..
أودّ الكتابة عن الحب، وهو بالتأكيد شعور لم يخلق الله أجمل منه في أرواحنا، إنما من وجهة نظري الخاصة..
لا أزال أذكر ذلك الحوار البسيط الذي دار بيني وبين أخي الكبير منذ أكثر من خمس سنوات، والذي قد يكون هو نفسه نسيه، عندما كان يجهز حقيبة سفره لرحلة عمل من رحلاته الكثيرة، فلفت نظري شيء صغير غريب يحرص على ترتيبه مع بقية أغراضه، أشبه بملقط صغير جداً مع خيط، بدا أمراً عديم القيمة تماماً بالنسبة لي، ولم أفهم سرّ حرصه عليه بهذا الشكل بدل إلقائه ببساطة، فأوضح لي بأنه شيء أعطته إياه ابنته التي لم تتجاوز سنواتها الخمس في ذلك الوقت، قائلة له بأن هذا الشيء سيجلب له الحظ في سفره، وإنه شيء كي يتذكرها طيلة الوقت أثناء غيابه.. بالطبع لم أفهم ما كان يدور في مخيلة الفتاة الصغيرة حول هذا الشيء ولماذا قررت منحه هذه الأهمية، ولكن ما هو أهم، لم أفهم ما الذي كان يدور في ذهن أخي حتى يصدق كلام طفلة بدا لي بلا معنى، ويحرص على اصطحاب هذا الشيء معه في كل رحلة كما أخبرني، حتى لو كانت ابنته غافلة عن هذا الأمر ونسيت ما طلبت منه، كان هو يذكر ويحمله معه في كل الأحوال.. وعندما سألته مستغربة عن سبب حرصه لهذا الحد، أجابني وهو مستغرب من سؤالي، بنبرة حازمة لم يشبها أي تردد: "لأنني وعدتُ مايا"..
تلك الكلمات البسيطة تركت في نفسي أثراً عميقاً إلى حد يومنا هذا، دفعني إلى ما أكتبه الآن.. فلو أن كل مدعي الحب والرومانسية يفهمون هذا الموقف لوفرنا كثيراً من القلوب المكسورة والدموع المجروحة.. فالحب هو التزام ومسؤولية فوق وقبل كل شيء اتجاه من تحب.. هو ليس شعور نشوة عابرة، أو لذة لحظية، أو كلمات غزل مملوءة بالكذب، أو وعود فارغة تتبعثر مع أول طيف عاصفة يلوح في الأفق..
الحب ليس افتتاناً بامرأة مختلفة عن كل النساء اللاتي عبرن روحك، ينتهي بسجن روحك مع أخرى لا تعرفها حتى، وفق النموذج التقليدي كي ترضي المجتمع من حولك، وتثبت رجولتك بأن تكسر روح من أحبتك حقاً.. الحب ليس لهفة على رجل لم تجدي بريقاً في عيون كل رجال العالم يشبه بريق عينيه وهو يتأملك، كي تُطفئي ذلك البريق بين ليلة وضحاها، وتقبلي بأول عريس "لقطة" لاح في أفقك حتى لا يفوتك "القطار" الذي يتحدث عنه كل من حولك، وأنت تجهزين على روحك بيديكِ كي تسمعي تصفيقهم.. لا، ليس هذا الحب الذي تفهمه روحي..
الحب هو وعودك المملوءة بصدق روحك اتجاه من تحب، هو مسؤوليتك وأنت تنفذ هذه الوعود بكل جدية، بلا ضغط أو قلق، إنما بكل راحة وعفوية، لأن هذا هو الشعور الطبيعي نحو حبيبك.. هو قناعتك أن قيامك بكسر نبضات قلب دافئ احتضن قلبك المذعور يوماً، ولملم تفاصيله المبعثرة، وعلمه أولى خطوات الرقص بفرح وثقة فوق شكوك هذه الحياة هو خيار غير مفهوم أصلاً ولا يحتمل الوجود، وليس الخيار الأسهل كما يفهم معظم "العشاق".. إنما بالنسبة لك فهو ليس خياراً من الأساس..
الحب هو أن تمنح قداسة لكل تلك التفاصيل التي قد تبدو غير ذات قيمة لكل من حولك.. لأن قيمتها ببساطة مكتسبة من روح من تحب..
الحب ليس مرهوناً بشروط وخانات يجب ملؤها كي يبدأ قلبنا بالنبض اتجاه من حقق هذه الشروط.. الحب هو أن تحب ذلك الشخص حتى وأنت لا تطيقه!.. حتى وهو يدفعك للجنون وأن تفقد آخر ذرة من اتزانك، لأنك تدرك أنه هو الذي حقق اتزانك ذات يوم.. الحب هو نظرتك المليئة بالحنان لنصف روحك وهو في أضعف حالاته وأشقاها.. وأمنيتك لو تزرع له من روحك حقل ورد يريحه من كل ذلك الشوك الذي أتعبه وخزه، فمثله لا يليق به إلا الورد..
لن أنسى مشهد ذلك العجوز الذي كان يمسح بيده المتعبة دمع زوجته المريضة في الحافلة، ويربت على يديها مطمئناً لها كم أنه يحبها.. رغم أن كل الركاب كانوا ينظرون لها باشمئزاز.. لكنه كان يتأملها وكأنها جنّة الله على هذه الأرض، والذي اصطفاه من بين البشر كي يعتني بها.. لأنه لم يكن يتأملها بعينيه الفارغتين.. إنما بروحه الممتلئة عشقاً..
كل يوم نحن نخبر أشخاصاً في حياتنا كم نحبهم، دون أن يكون الأمر مستهلكاً أو مبتذلاً.. حين تضغط على يد صديقك المرتجفة خوفاً من نظرتك إليه بعدما كشفه من قبح روحه على ما يظن، واعترافه بأسرار ضاق بها صدره تجعل الآخرين يحكمون عليه بسوء لو عرفوها، فيتفاجئ بك على العكس ازددت قرباً منه لأنك لم ترَ به إلا العذوبة والجمال الذي يعكس كمية حبك له.. حين تفقدين أعصابكِ من طيش ابنك وإهماله، وتصرخين بسبب كمّ خوفك عليه وعدم قدرتك على مجرد تخيل كيف ستمضي عقارب ساعة الحياة إن حصل له مكروه..
حين تمسح برفق وجنتي زوجتك المرهقة من ليلة لم تنمها مع طفلكما الثالث، وتخبرها كيف أن جاذبيتها كل يوم تخطف أنفاسك أكثر كما حصل من أول نظرة، فشعورك لم يتغير.. حين تصرّين على محاولة إتقان طبخة زوجك المفضلة للمرة الواحدة بعد الألف، رغم أنك امرأة المقطوعات الموسيقية والكتب والأفلام وليس أواني الطبخ، ومع ذلك لا تيأسين من مشهد تلك الأواني المحترقة مرة بعد مرة من أجل عينين يبتسم عمرك إن ابتسمتا.. حين تختار الجلوس في مكان مغلق رغم أنك لا تطيق الأماكن المغلقة، لأن حبيبتك تشعر بالبرد، وتبدأ بإقناعها أنك منذ الأزل لا تحب الجلوس في المساحات المفتوحة، وكلاكما يعرف أنك كاذب.. حين تطمئنين على آخر ظهور لحبيبك على الإنترنت، كي تعرفي أنه وصل بالسلامة من رحلته حتى لو كنتما على خلاف ولا تكلمان بعضكما..
حين وحين وحين.. كثيرة هي المشاهد، ولا يسعها مقال أو اثنان أو حتى ألفان.. إنما مختصر القول، لا تسأل عاشقاً عن مشاعره في علاقة مثالية، إنما اسأله ماذا يفعل وقع ذلك الاسم الذي يسبب له مشاكل الدنيا بنبضات قلبه.. واسأله.. هل وعدت ذلك الاسم بأن تحبه حتى وأنت ترى عيوبه.. وهل صدقت؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.